وكذا لو بلّغ بعض الأحكام دون البعض يكون التعذيب بالنسبة إلى ما لم يبلّغ مخالفاً للوعد في الآية . وكذا لو بلّغ إلى بعض الناس دون بعض لا يصحّ أن يقال : إنّه يعذّب الجميع ; لأ نّه بعث الرسول . وكذا لو بلّغ جميع الأحكام في عصره ثمّ انقطع الوصول إلى الأعصار المتأخّرة .
وهذا أو أشباهه يدلّ على أنّ الغاية لاستحقاق العذاب هو التبليغ الواصل ، وأنّ ذكر بعث الرسول مع انتخاب هذه الكلمة كناية عن إيصال الأحكام وإتمام الحجّة ، وأنّ التبليغ غير الواصل في حكم العدم ، وأنّه لا يصحّح العذاب ، كما أنّ وجود الرسول بين الاُمّة بلا تبليغ كذلك .
وعلى ذلك : فلو بحث المكلّف عن تكليفه ووظيفته بحثاً أكيداً ، فلم يصل إلى ما هو حجّة عليه ـ من علم تفصيلي أو إجمالي وغيرهما من الحجج ـ فلا شكّ أنّه يكون مشمولاً لقوله عزّوجلّ : (وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ; لما عرفت من أنّ الغاية للوعيد بحسب اللبّ هو إيصال الأحكام إلى العباد ، وأنّ بعث الرسل ليس له موضوعية فيما رتّب عليه .
وإن شئت قلت : إنّ قوله تعالى : (وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ) تنزيه للحقّ تعالى شأنه ، وهو يريد بهذا البيان أنّ التعذيب قبل البيان مناف لمقامه الربوبي ، وأنّ شأنه تعالى أجلّ من أن يرتكب هذا الأمر ; فلذلك عبّر بقوله : (وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ) ، دون أن يقول : «وما عذّبنا» ، أو «ما أنزلنا العذاب» ، وذلك للإشارة إلى أنّ هذا الأمر مناف لمقامه الأرفع وشأنه الأجلّ .
وبعبارة أوضح : أنّ الآية مسوقة : إمّا لإفادة أنّ التعذيب قبل البيان مناف لعدله وقسطه ، أو مناف لرحمته وعطوفته ولطفه على العباد .
فلو أفاد الأوّل لَدلّ على نفي الاستحقاق وأنّ تعذيب العبد حين ذاك أمـر