ثم أشار عليه السلام إلى الصفة الثانية
«عَمِلُوا فِيهَا بِمَا يُبْصِرُونَ».
ومن ثم قال عليه السلام: «وَ
بَادَرُوا[1]
فِيهَا مَا يَحْذَرُونَ». فهؤلاء يرون ببصيرتهم سبل
النجاة ويقفون على عناصر السعادة والفلاح، ومن هنا يلهثون وراءها دائماً، ويعرفون
من جانب آخر عوامل البؤس والشقاء، لذلك يسعون للهروب منها وعدم التلوث بها.
وقال في الصفة الرابعة: «تَقَلَّبُ
أَبْدَانُهُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ[2] أَهْلِ الْآخِرَةِ». نعم
فهم يعيشون مع الجميع ظاهرياً؛ إلّاأنّ معاشريهم الحقيقيين أهل الآخرة، كونهم
يعلمون أنّ معاشرتهم لأصحاب الدنيا تميت قلوبهم، فلا شيء في مجالسهم سوى الدنيا
ولذاتها، فهم في الواقع أموات بصورة أحياء.
ثم قال في الصفة الخامسة والأخيرة: «وَ
يَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ وَهُمْ أَشَدُّ
إِعْظَاماً لِمَوْتِ قُلُوبِ أَحْيَائِهِمْ».
يستفاد من الصفات الخمس المذكورة أنّ معنى الزهد وحقيقته ليس في كون الإنسان
فقيراً ومعدماً أو يتخلى عن الحياة الاجتماعية والتقوقع في زاوية للعبادة؛ بل
حقيقة الزهد أن يرى الأولوية للدار الآخرة في كلّ شيء وحيثما كان ولا يكون أسير
زخارف الدنيا والأهواء والشهوات، وجاء في خطبة أخرى للإمام عليه السلام.
وقد بحثنا بما فيه الكفاية حقيقة الزهد في تلك الخطبة.
***
[1]. «بادروا» من «المبادرة» الاسراع
في العمل أحياناً وأخرى السبق (تتعدى الاوّلى بدون «الى» وتتعدى الثانيةب «إلى»).
[2]. «ظهراني» يعنى وسط شخصين أو
أشخاص والأصل «ظَهْرين» تثنية «ظَهر» وكان للإنسان داعم من أمامهوخلفه إن كان وسط
جماعة ثم أضيف له الألف والنون للتأكيد ونون التثنية حذفت عند الاضافة لتصبح «بين
ظهراني» وعليه «بين ظهراني» أن يكون الإنسان بين أفراد يحمونه. (راجع مادة ظهر في
لسان العرب).