و لما انتهى الكلام إلى أحكام العناوين الثانوية اشتاقت نفوس جمع من الأحبة
إلى تعريفها، و بيان الفرق بينها و بين غيرها، و ما يخصها من الأحكام، لا سيما و
إنا لم نر من تعرض لها من الأعلام في طيات كتب «الفقه» و «الاصول» و لم نجد إلّا
إشارات طفيفة في مختلف أبواب الفقه، فأحببت تفصيل الكلام فيه لما فيه من آثار
كثيرة لا سيما في زماننا هذا، فنقول و منه جل ثنائه نستمد التوفيق و الهداية: لا
بدّ هنا من رسم امور:
1- تعريف العناوين الثانوية و حدودها
قد عرفت أنّ الأحكام تحتاج إلى موضوع يرد عليه، و متعلق، تتعلق به، و إنّهما
قد يتحدان و قد يفترقان، ففي مثل وجوب الصلاة، الموضوع و المتعلق أمر واحد، و في
مثل شرب الخمر مختلفان، و ذكر بعض الاصوليين أنّ الموضوع أشبه شيء بالمعروض في
مقابل العرض، و لكنه مجرّد تشبيه، و إلّا فالأحكام امور اعتبارية لا مساس لها
بالعرض الذي هو من الامور الحقيقية.
و على كل حال، العنوان المأخوذ في الموضوع قد يكون «عنوانا ثابتا له مع قطع
النظر عن العوارض و الطوارئ التي يتغير الأحكام بها، فيسمى عنوانا أوليا، و اخرى
يكون من العوارض و الطوارئ التي قد يلحقها و يتغير بها حكمه، فيسمى عنوانا ثانويا.
و إن شئت فانظر إلى مثل لحم الميتة و حرمتها، ثم الاضطرار إلى أكلها لبعض ما
يرد على الإنسان، كالسفر إلى غير بلاد المسلمين مع عدم التمكن من ذبيحة المسلم، و
مع عدم القدرة على ترك اللحم زمانا طويلا للخوف على النفس.
فلحم الميتة حرام ذاتا بما أنّها ميتة، و لكن عروض عنوان الاضطرار يوجب تغيير
حكمها مؤقتا، ثم بعد زواله يرجع إلى ما كان عليه، و كذا الكلام بالنسبة إلى حرمة
الكذب، و اباحته أحيانا لما فيه من إصلاح ذات البين، فالكذب عنوان ثابت أولي
للحرمة لا يتغير من هذه الناحية، و لكن عنوان «إصلاح ذات البين» أمر عارض مؤقت
يوجب اباحته فعلا.
و كذا الواجب في الوضوء هو مسح الرأس و الرجلين، و لكن عروض عنوان التقية قد