مكان معين، و لهذا فهو أقرب إلينا من كلّ شيء حتّى من أنفسنا، و في نفس الوقت
الذي يتنزّه فيه اللّه تعالى عن المكان و المحل، فإنّه محيط بكل شيء، و هذه
الإحاطة و الحضور الإلهي بالنسبة لجميع المخلوقات بمعنى (العلم الحضوري) لا (العلم
الحصولي) [1].
ثمّ تبيّن الآية التالية واحدة من علم و قدرة اللّه تعالى الرائعة، بل هي في
الحقيقة إحدى روائع عالم الخلقة و مظهر بارز لعلم اللّه و قدرته المطلقة حيث تقول
الآية هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي
الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ ثمّ تضيف لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
إنّه لأمر عجيب و محيّر حقّا أن يصوّر اللّه الإنسان و هو في رحم أمّه صورا
جميلة و متنوّعة في أشكالها و مواهبها و صفاتها و غرائزها.
و هذه الآية تؤكّد أنّ المعبود الحقيقي ليس سوى اللّه القادر الحكيم الذي
يستحقّ العبادة، فلما ذا إذن يختارون مخلوقات كالمسيح عليه السّلام و يعبدونها، و
لعلّ هذه العبارة إشارة إلى سبب النزول المتقدّم في بداية السورة من أنّ
المسيحيّين أنفسهم يوافقون على أنّ المسيح كان جنينا في بطن أمّه مريم، ثمّ تولّد
منها، إذن فهو مخلوق و ليس بخالق فكيف يكون معبودا؟!
بحوث
1- مراحل تطوّر الجنين من روائع الخلق
إنّ عظمة مفهوم هذه الآية تجلّت اليوم أكثر من ذي قبل نتيجة للتقدّم الكبير
[1]- العلم الحضوري: يعني أن يكون
المعلوم ذاته حاضرا عند العلم. أمّا في العلم الحصولي فإنّ الحاضر عند العالم هو
صورة المعلوم و رسمه، فمثلا أنّ علمي بنفسي علم حضوري لأنّ نفسي ذاتها حاضرة في
نفسي، أمّا بالنسبة للموجودات الأخرى فعلمنا بها حصولي، لأنّ صورتها فقط هي
الحاضرة في أذهاننا.