أجل، إنّ هذه الخطوة الأولى التي خلق اللّه فيها الإنسان بكلّ عظمته و
استعداده و جدارته و الذي يعتبر أفضل مخلوقاته من تراب مهين لا قدر و لا قيمة له،
و هكذا تجلّت قدرته سبحانه و تعالى في هذا الخلق البديع.
و تضيف الآية التالية ثُمَّ
جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ.
و في الواقع فانّ الآية الأولى تشير إلى بداية وجود جمع البشر من آدم و أبنائه
و أنّهم خلقوا جميعا من التراب، إلّا أنّ الآية التالية تشير إلى تداوم و استمرارية
نسل الإنسان بواسطة تركيب نطفة الذكر ببويضة الأنثى في الرحم.
و هذا البحث يشبه ما جاء في الآيتين السابعة و الثامنة من سورة السجدة وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ
نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ.
و التعبير عن الرحم ب «قرار مكين»، أي القرار الآمن، إشارة إلى أهميّة الرحم
في الجسم، حيث يقع في مكان أمين محفوظ من جميع الجهات، يحفظه العمود الفقري من
جهة، و عظم الحوض القوي من جهة أخرى، و أغشية البطن العديدة من جهة ثالثة، و دفاع
اليدين يشكّل حرزا رابعا له. و كلّ ذلك شواهد على موضع الرحم الآمن.
ثمّ تشير الآية الثّالثة إلى المراحل المدهشة و المثيرة لتدرّج النطفة في
مراحلها المختلفة، و اتّخاذها شكلا معيّنا في كلّ منها في ذلك القرار المكين، حيث
تقول: إنّنا جعلنا من تلك النطفة على شكل قطعة دم متخثّر (علقة) ثمّ بدّلناها على
شكل قطعة لحم ممضوغ (مضغة)، ثمّ جعلنا من هذه المضغة عظاما، و أخيرا ألبسنا هذه
العظام لحما: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً
فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا
الْعِظامَ لَحْماً.
[1]- «السلالة» على وزن «عصارة» تعني
الشيء الذي يستخلص من شيء آخر، و هي في الحقيقة خلاصة و نتيجة منه (مجمع البيان
حول الآية موضع البحث).