و للأسف لم تستمر هذه اليقظة الروحية المقدّسة، و ثارت في ضمائرهم الملوّثة
المظلمة قوى الشيطان و الجهل ضدّ نور التوحيد هذا، و رجع كلّ شيء إلى حالته
الأولى، و كم هو لطيف تعبير القرآن حيث يقول: ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ و من أجل أن يأتوا بعذر نيابة عن الآلهة البكم قالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فإنّهم دائما صامتون، و لا يحطّمون حاجز الصمت. و أرادوا
بهذا العذر الواهي أن يخفوا ضعف و ذلّة الأصنام.
و هنا فتح أمام إبراهيم الميدان و المجال للاستدلال المنطقي ليوجّه لهم أشدّ
هجماته، و ليرمي عقولهم بوابل من التوبيخ و اللوم المنطقي الواعي: قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا
يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ؟ فما ذا
تنفع هذه الآلهة المزعومة الخياليّة التي لا قدرة لها على الكلام، و ليس لها شعور
و إدراك، و لا تقدر أن تدافع عن نفسها، و لا تستطيع أن تحمي عبّادها، و لا يصدر
عنها أي عمل؟
إنّ عبادة معبود ما إنّما يكون لأهليّته للعبادة، و مثل هذا الأمر لا معنى له
في شأن الأصنام الميتة، أو يعبد رجاء فائدة و نفع تعود عليهم من قبله، أو الخوف من
خسارتهم، إلّا أنّ إقدامي على تحطيم الأصنام أوضح أنّها لا تملك أدنى حركة، و مع
هذا الحال ألا يعتبر عملكم هذا حمقا و جهالة؟! و وسّع معلّم التوحيد دائرة الكلام،
و انهال بسياط التقريع على روحهم التي فقدت الإحساس، فقال: أُفٍ[1] لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا
تَعْقِلُونَ؟ إلّا أنّه لم يلحّ في توبيخهم و تقريعهم
لئلّا يلجّوا في عنادهم.
في الحقيقة، كان إبراهيم يتابع خطّته بدقّة متناهية، فأوّل شيء قام به عند
دعوتهم إلى التوحيد هو أن ناداهم قائلا: ما هذه التماثيل التي تعبدونها؟ و هي
[1]- بحثنا في معنى أُفٍ بصورة أكثر
تفصيلا في ذيل الآية (23) من سورة الإسراء