واضح مدى القلق و الاضطراب الذي تتركه هذه الوساوس على مجتمع لم يتغلغل نور
العلم و الإيمان في كل زواياه، و لم يتخلص بعد تماما من رواسب الشرك و العصبية.
لذلك تصرّح الآية أعلاه أن تغيير القبلة اختبار كبير لتمييز المؤمنين من
المشركين.
لا نستبعد أن يكون أحد أسباب تغيير القبلة ما يلي:
لما كانت الكعبة في بداية البعثة المباركة بيتا لأصنام المشركين، فقد أمر
المسلمون مؤقتا بالصلاة تجاه بيت المقدس، ليتحقّق الانفصال التام بين الجبهة
الإسلامية و جبهة المشركين.
و بعد الهجرة و إقامة الدولة الإسلامية و المجتمع الإسلامي، حدث الانفصال
الكامل بين الجبهتين، و لم تعد هناك ضرورة لاستمرار وضع القبلة، حينئذ عاد
المسلمون إلى الكعبة أقدم قاعدة توحيدية، و أعرق مركز للأنبياء.
و من الطبيعي أن يستثقل الصلاة نحو بيت المقدس لأولئك الذين كانوا يعتبرون
الكعبة الرصيد المعنوي لقوميتهم، و أن يستثقلوا أيضا العودة إلى الكعبة بعد أن
اعتادوا على قبلتهم الاولى (بيت المقدس).
المسلمون بهذا التحوّل وضعوا في بوتقة الاختبار، لتخليصهم ممّا علّق في نفوسهم
من آثار الشرك، و لتنقطع كل انشداداتهم بماضيهم المشرك، و لتنمو في وجودهم روح
التسليم المطلق أمام أوامر اللّه سبحانه.
إن اللّه سبحان ليس له مكان و محل- كما ذكرنا- و القبلة رمز لوحدة صفوف
المسلمين و لإحياء ذكريات خط التوحيد، و تغييرها لا يغيّر شيئا، المهم هو
الاستسلام الكامل أمام اللّه، و كسر أوثان التعصب و اللجاج و الأنانية في النفوس.