أر باكيا أكثر من
ذلك اليوم ، ولا يوما أمرّ على المسلمين منه.
قال : فخرج علي بن الحسين ، ومعه خرقة
يمسح بها دموعه ، وخلفه خادم معه كرسيّ ، فوضعه له وجلس عليه ، وهو لا يتمالك عن
العَبرة ، وارتفعت أصوات الناس بالبكاء ، وحنين النسوان والجواري ، والناس يعزّونه
من كل ناحية ، فضجّت تلك البقعة ضجّة واحدة ، فأومأ بيده : أن اسكنوا ، فسكنت
فورتهم ، فقال :
«
الحمد لله ربّ العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، بارىء الخلق أجمعين ،
الذي بعد فارتفع في السماوات العلا ، وقرب فشهد النجوى ، نحمده على عظائم الأمور ،
وفجائع الدهور ، وألم الفجائع ، ومضاضة اللواذع ، وجليل الرزء ، وعظيم المصائب
الفاظعة ، الكاظّة ، الفادحة الجائحة.
أيّها
القوم! إن الله تعالى ابتلانا بمصائب جليلة ، وثلمة في الإسلام عظيمة ، قتل أبو
عبدالله ، الحسين ، وعترته ، وسبيت نساؤه وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق
عالي السنان ، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية.
أيها
الناس! فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟ أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله؟ أم اية
عين منكم تحبس دمعها ، وتضنّ عن انهمالها؟
أيّها
الناس! أصبحنا مشرّدين ، مطرودين ، مذودين ، شاسعين عن الأمصار ، كأنّنا أولاد ترك
وكابل ، من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها
، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، إن هذا إلاّ اختلاق.
والله!
لو أنّ النبيّ تقدّم إليهم في قتالنا ، كما تقدّم إليهم في الوصية بنا ، لما زادوا
على ما فعلوا بنا.
فإنا
لله وإنا إليه راجعون ، من مصيبة ما أعظمها ، وافجعها ، وأكظها ، وأفظعها ،
وأمرّها ، وأفدحها!