وهذا إمام اللغة ابن فارس ، يقول في
مقاييسه : « أُمّ القرى ، مكة ، وكلّ مدينة هي أُمّ ما حولها من القرى ».
قال ابن فندق في تاريخه : إذا تركّزت
اُمور منطقة خاصة في محل ، يقال له باعتبار القرى والقصبات التابعة له ، أُمّ
القرى ، ثم أتى بأمثلة وقال : فصنعاء أُمّ القرى في اليمن ، « وبغداد » أُمّ القرى
في العراق ، بعد ما كانت « البصرة » يوماً أُمّ القرى ومرو أُمّ القرى في خراسان
وهكذا ... [١].
فهذا التركيب ( أُمّ القُرى ومن حولها )
ليس من مصطلحات القرآن واختصاصاته بل كان دارجاً في عصر الرسالة وقبله وبعده ، وقد
نزل القرآن بلسان النبي الذي هو لسان قومه وليس له في هذا التركيب اصطلاح خاص ، بل
هو والعرف في ذلك سواسية ، فلا يصلح أن يحمل على غير ما هو المتفاهم عندهم. فإذا
قيل : (لِتُنذِرَ أُمَّ
الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا) وقامت
القرينة على أنّ المراد من أُمّ القرى مكة ، فلا يراد منه وممّا عطف عليه إلاّ ما
يراد في نظائرها ، فإذا قيل : هذا إمام البصرة أو سائسها ومن حولها ، فلا يراد
إلاّ نفوذ حكمه في نفس البصرة والمناطق التابعة لها ، حكماً وسياسة واقتصاداً ، أو
غيرها من وشائج الارتباط ودوافع التبعية ، لا أنّه إمام الأرض شرقاً وغرباً ،
وهكذا إذا قيل : بعث نبي الإسلام لينذر مكة ومن حولها ، لا يراد منه إلاّ أنّه بعث
لينذر من يعيش في مكة والمناطق التابعة لها عرفاً ، سياسة وحكماً أو اقتصاداً
وتجارة ، أو غيرها من القرى القريبة المتاخمة لها ، القائمة عند حدودها والمناطق
التابعة لها في العلاقات الاجتماعية لا أنّه بعث لينذر أهل العالم كلّه ، فإنّ
إرادة هذا المعنى من هذا التركيب غير معهود ، لو لم يكن مستهجناً.
وأمّا ثانياً : فلأنّ ما ذكره من حديث
دحو الأرض إلى آخره ، صحيح ، غير أنّ إطلاق أُمّ القرى على مكة بهذه المناسبة
التكوينية يحتاج إلى دليل ، ودون اثباته خرط القتاد ، والعرب الجاهليون كانوا
يطلقون أُمّ القرى ، على مكة ، من غير أن يكون لهم علم