الأوّل : انّ المراد من « القرى » في
قوله تعالى : (لِتُنذِرَ
أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا) ما يعم
المدن الواسعة ، وقد أطلق لفظ القرية في القرآن على المدينة أيضاً كقوله تعالى : (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا
وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) ( يوسف ـ ٨٢
) والقرية التي اقترح أبناء يعقوب على أبيهم أن يسألها ، هي مدينة « مصر » وقد
كانت يوم ذاك مدينة كبيرة ، ذات أبواب متفرّقة ، لقوله سبحانه : (يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ
وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ) ( يوسف ـ ٦٧
).
الثاني : قد استفاضت الروايات من مهبط
الوحي والتنزيل على أنّ الله سبحانه دحى الأرض يوم دحاها ، من تحت مكة ، والمراد
من الدحو من تحتها أنّ أرض مكة هي أوّل قطعة من الأرض اخرجت من الماء ، بعد ما
كانت الأرض بعامة أجزائها مغمورة بالماء ، ثم برز سائر اجزائها ، عن تحت الماء
تدريجاً ، وبذلك صارت مكة اُمّاً لسائر البلاد ، وأصلاً لسائر القرى ومركزاً
تكوينياً للأرض.
قال : إذا كان إطلاق اُمّ القرى على مكة
بهذه المناسبة ، فيصير المراد من « أُمّ القرى » ، أي أُمّ البلاد الموجودة في
العالم ومركزها التكويني كما يصير المراد من (وَمَنْ
حَوْلَهَا)
عامة من يعيش في نواحي الأرض وسائر أقطارها كلّها وإليه ذهب حبر الاُمّة عبد الله بن
عباس ، وفسّره الإمام الطبرسي بقوله : « من سائر الناس وقرى الأرض كلّها » [١] فتصير الآية من الأدلّة الدالّة على
عالمية رسالته.
وفي هذا الجواب مجال للنظر والبحث :
أمّا أوّلاً : فلأنّ أُمّ القرى ليست علماً
لمكة ، بل كلّياً اُطلق عليها في هذه الآية بما أنّها إحدى مصاديقه ، كيف وقد قال
سبحانه مبيّناً لسنّته في الاُمم الماضية جميعاً : (وَمَا
كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا
رَسُولاً)
( القصص ـ ٥٩ ) أي حتى يبعث في أُمّ تلك القرى رسولاً يبلّغ رسالات الله عليهم.
وهذه سنّة الله تعالى في ابادة الاُمم الطاغية مطلقاً ، غير مختصة بالاُمّة
العائشة بمكة ومن حولها.