إلى الروح ، ديناً
وسطاً بين الماديّة البحتة والروحية المحضة ، فقد آلف بتعاليمه القيمة بينهما ،
موالفة تفي بحق كل منهما ، بحيث يتيح للانسان أن يأخذ قسطه من كل منهما بقدر ما
تقتضيه المصلحة.
وذلك أنّ المسيحية غالت في التوجه إلى
الناحية الروحية ، حتى كادت أن تجعل كل مظهر من مظاهر الحياة المادية خطيئة كبرى ،
فدعت إلى الرهبانية والتعزّب وترك ملاذ الحياة والانعزال عن المجتمع ، والعيش في
الأديرة وقلل الجبال ، وتحمل الظلم والرفق مع المعتدين ، كما غالت اليهودية في
الانكباب على المادة حتى نسيت كل قيمة روحية ، وجعلت الحصول على المادة بأي وسيلة
كانت ، المقصد الأسنى ، ودعت إلى القومية الغاشمة والطائفية الممقوتة.
وهذه المبادئ سواء أصحت عن الكليم
والمسيح عليهالسلام أم لم تصح (
ولن تصح إلاّ أن يكون لاصلاح انغمار الشعب الاسرائيلي في ملاذ الحياة يوم ذاك
وانجائهم عن التوغل في الماديات وسحبهم إلى المعنويات بشدة وعنف ) وإن شئت قلت : «
كانت تعاليمه اصلاحاً مؤقتاً لاسراف اليهود وغلوهم في عبادة المال حتى أفسد
أخلاقهم وآثروا دنياهم على دينهم والغلو يقاوم موقتاً بضده » [١]. لا تتماشى مع الحضارات الانسانية
التقدمية ولا تسعدها في معترك الحياة ، ولا تتلائم مع حكم العقل ولا الفطرة
السليمة.
لكن الإسلام جاء لينظر إلى واقع الانسان
، بما هو كائن ، لا غنى له عن المادة ، ولا عن الحياة الروحية ، فأولاهما عنايته ،
فدعا إلى المادة والالتذاذ بها بشكل لا يؤثر معه على الحياة الروحية ، كما دعا إلى
الحياة الروحية بشكل لا يصادم فطرته وطبيعته.
وحصيلة البحث : أنّه لم يعطل الفطرة في
تشريعه وتقنينه ، بل جعلها مقياساً لحكمه بالوجوب والتحريم ، فإذا كان الحكم
مطابقاً لطبع من شرعت له الأحكام حافظاً لكيانه ، لا يتعارض مع ما يحتاج إليه جسمه
وروحه ، كان ماضياً ونافذاً حسب بقاء الفطرة ودوامها.