ومن المعلوم أنّ الإدراك مفهوم عام لا
يتعيّن في البصري أو السمعي أو العقلي إلاّ بالإضافة إلى الحاسّة التي يراد
الإدراك بها ، فالإدراك بالبصر يراد منه الرؤية بالعين ، والإدراك بالسمع يراد منه
السماع ، هذا هو ظاهر الآية ، وهي تنفي إمكان الإدراك بالبصر على الإطلاق.
ولمّا وقف الرازي على أنّ ظاهر الآية أو
صريحها لا يوافق أصله الكلامي ، لأنّها ظاهرة في نفي الإدراك بالبصر ، قال : إنّ
أصحابنا ( الأشاعرة ) احتجّوا بهذه الآية على أنّه يجوز رؤيته والمؤمنون يرونه في
الآخرة ، وذلك لوجوه :
١. أنّ الآية في مقام المدح فلو لم يكن
جائز الرؤية لما حصل التمدّح بقوله : ( لا تدركه الأبصار ) ألا ترى أنّ المعدوم لا تصح رؤيته ،
والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم لا تصح رؤية شيء منها ولا يمدح شيء
منها في كونها « لا تدركه الأبصار » فثبت أنّ قوله : ( لا تدركه الأبصار ) يفيد المدح ، إلاّ إذا صحت الرؤية.
والعجب غفلة الرازي عن أنّ المدح ليس
بالجزء الأوّل فقط ، أعني : ( لا تدركه الأبصار ) ، بل المدح بمجموع الجزأين المذكورين
في الآية كأنّه سبحانه يقول : واللّه جلّت عظمته يدرك أبصاركم ، ولكن لا تدركه
أبصاركم ، فالمدح بمجموع القضيتين لا بالقضية الأُولى.