والسير في الكتابين والمقارنة بين
فصولهما والأُصول المطروحة فيهما ، وكيفية البرهنة عليها ، يعرب للباحث أنّ هناك
هوة سحيقة بين مذهب الأشعري في « الإبانة » ، ومذهبه في « اللمع » ، وأنّ تلامذة
مدرسته استثمروا ماجاء به الشيخ في « اللمع » ، دون ما في « الإبانة » ، وجعلوه هو
الأصل ، وأشادوا بنيانه ، وأكبّوا على دراسته ، ولأجل ذلك أصرُّوا على التنزيه ،
وركّزوا على الكسب ، وأسّسوا منهجاً كلامياً ، بين مذهب الحشوية من أهل الحديث
والمعتزلة من المتكلّمين.
ما هو الداعي إلى التصويرين
المختلفين؟
إنّ هنا سؤالاً يطرح نفسه : إذا كان ما
يعتقده الأشعري من الأُصول هو ما جاء به في « الإبانة » ، فما هو الداعي للتصويرين
المختلفين في مذهب الحقّ؟
والإجابة عن هذا السؤال مشكلة جداً ،
وعلى ضوء ما ذكرناه حول الدوافع التي دعت الشيخ الأشعري إلى الانخراط في سلك أهل
الحديث ، يمكن أن يقال : إنّ الهدف الأسمى للشيخ كان هو تعديل عقائد الحشوية ، من
أهل الحديث الذين كانوا يتعبّدون بكلّ حديث من دون معالجة أسناده ، أو مضمونه ،
وتقييمه في سوق الاعتبار ، وكان تحقّق ذلك الهدف رهن الانخراط في سلكهم ، والرجوع
عن أعدائهم ومخالفيهم ، ولذلك أعلن الشيخ التوبة عن الاعتزال ونصرة مذهب إمام
الحديث ومقدامه.
ولكن لمّا لم يكن ذلك كافياً في الأخذ
بمجامع قلوبهم ، وصرف نفوسهم وأهوائهم إلى نفسه ، عمل كتاب « الإبانة » حتى يرضي
قلوبهم ويملأ عيونهم مع إقحام بعض الكلمات التي تناسب التنزيه وتخالف التجسيم
فيها.
ولمّا تربّع على سدَّة الحكم وآمنت
أصناف من الحشوية به ، أخذ بالتعديل