وَأَنَاخَتْ بِكَلاَكِلِهَا، وَانْصَرَمَتِ (انصرفت) الدُّنْيَا بِأَهْلِهَا، وَأَخْرَجَتْهُمْ مِنْ حِضْنِهَا. فَكَانَتْ كَيَوْم مَضَى، أَوْ شَهْر انْقَضَى، وَصَارَ جَدِيدُهَا رَثّاً، وَسَمِينُهَا غَثّاً.
فِي مَوْقِف ضَنْكِ الْمَقَامِ، وَأُمُور مُشْتَبِهَة عِظَام، وَنَار شَدِيد كَلَبُهَا، عَال لَجَبُهَا، سَاطِع لَهَبُهَا، مُتَغَيِّظ زَفِيرُهَا، مُتَأَجِّج سَعِيرُهَا، بَعِيد خُمُودُهَا، ذَاك وُقُودُهَا، مَخُوف وَعِيدُهَا، عَم قَرَارُهَا، مُظْلِمَة أَقْطَارُهَا، حَامِيَة قُدُورُهَا، فَظِيعَة أُمُورُهَا.
(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً).[ 1 ] قَدْ أُمِنَ الْعَذَابُ، وَانْقَطَعَ الْعِتَابُ; وَزُحْزِحُوا عَنِ النَّارِ، وَاطْمَأَنَّتْ بِهِمُ الدَّارُ، وَرَضُوا الْمَثْوَى وَالْقَرَارَ. الَّذِينَ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا زَاكِيَةً، وَأَعْيُنُهُمْ بَاكِيَةً، وَكَانَ لَيْلُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ نَهَاراً، تَخَشُّعاً وَاسْتِغْفَاراً; وَكَانَ نَهَارُهُمْ لَيْلا، تَوَحُّشاً وَانْقِطَاعاً فَجَعَلَ اللهُ لَهُمُ الْجَنَّةَ مَآباً، وَالْجَزَاءَ ثَوَاباً، (وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا)[ 2 ] فِي مُلك دَائِم، وَنَعِيم قَائِم. فَارْعَوْا عِبَادَ اللهِ مَا بِرِعَايَتِهِ يَفُوزُ فَائِزُكُمْ، وَبِإِضَاعَتِهِ يَخْسَرُ مُبْطِلُكُمْ. وَبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ; فَإِنَّكُمْ مُرْتَهَنُونَ بِمَا أَسْلَفْتُمْ، وَمَدِينُونَ بِمَا قَدَّمْتُمْ. وَكَأَنْ قَدْ نَزَلَ بِكُمُ الَْمخُوفُ، فَلاَ رَجْعَةً تَنَالُونَ، وَ لاَ عَثْرَةً تُقَالُونَ. اسْتَعْمَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَعَفَا عَنَّا وَعَنْكُمْ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ.
الْزَمُوا الاَْرْضَ، وَاصْبِرُوا عَلَى الْبَلاَءِ. وَلاَ تُحَرِّكُوا بِأَيْدِيكُمْ وَسُيُوفِكُمْ فِي هَوَى أَلْسِنَتِكُمْ، وَلاَ تَسْتَعْجِلُوا بِمَالَمْ يُعَجِّلْهُ اللهُ لَكُمْ. فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَى فِرَاشِهِ وَهُوَ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِّ رَبِّهِ وَحَقِّ رَسُولِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ مَاتَ شَهِيداً، وَوَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَاسْتَوْجَبَ ثَوَابَ مَا نَوَى مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ، وَقَامَتِ النِّيَّةُ مَقَامَ إِصْلاَتِهِ لِسَيْفِهِ; فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْء مُدَّةً وَأَجَلا.