جَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ، وَفَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ، وَجَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ، وَنَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ، وَمِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ. يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهِمْ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا (ردّها)، وَلَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِمْ.
حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا، وَتَقْضِي مِنْهُ شَهَوَاتِهَا. وَخَلْقُهَا كُلُّهُ لاَ يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً.
فَتَبَارَكَ اللهُ الَّذِي (يَسْجُدْ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً)، وَيُعَفِّرُ لَهُ خَدّاً وَوَجْهاً، وَيُلْقِي إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ سِلْماً وَضَعْفاً، وَيُعْطِي لَهُ الْقِيَادَ رَهْبَةً وَخَوْفاً! فَالطَّيْرُ مُسَخَّرَةٌ لاَِمْرِهِ; أَحْصَى عَدَدَ الرِّيشِ مِنْهَا وَالنَّفَسَ، وَأَرْسَى قَوَائِمَهَا عَلَى النَّدَى وَالْيَبَسِ; وَقَدَّرَ أَقْوَاتَهَا، وَأَحْصَى أَجْنَاسَهَا.
فَهذَا غُرَابٌ وَهذَا عُقَابٌ. وَهذَا حَمَامٌ وَهذَا نَعَامٌ. دَعَا كُلَّ طَائِر بِاسْمِهِ، وَكَفَلَ لَهُ بِرِزْقِهِ. وَأَنْشَأَ السَّحَابَ الثِّقَالَ فَأَهْطَلَ دِيَمَهَا، وَعَدَّدَ قِسَمَهَا. فَبَلَّ الاَْرْضَ بَعْدَ جُفُوفِهَا، وَأَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا.
في التوحيد، وتجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة
مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ، وَلاَ حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ، وَلاَ إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ، وَلاَ صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَتَوَهَّمَهُ. كُلُّ مَعْرُوف بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ، وَكُلُّ قَائِم فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ. فَاعِلٌ لاَ بِاضْطِرَابِ آلَة، مُقَدِّرٌ لاَ بِجَوْلِ فِكْرَة، غَنِيٌّ لاَ بِاسْتِفَادَة. لاَ تَصْحَبُهُ الاَْوْقَاتُ، وَلاَ تَرْفِدُهُ الاَْدَوَاتُ; سَبَقَ الاَْوْقَاتَ كَوْنُهُ، وَالْعَدَمَ وَجُودُهُ، وَالاِْبْتِدَاءَ أَزَلُهُ. بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لاَ مَشْعَرَ لَهُ، وَبِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الاُْمُورِ عُرِفَ أَنْ لاَ ضِدَّ لَهُ، وَبِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الاَْشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لاَ قَرِينَ لَهُ. ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ، وَالْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ، وَالْجُمُودَ بِالْبَلَلِ، وَالْحَرُورَ (الجرور) بِالصَّرَدِ. مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا، مُقَارِنٌ (مقارب) بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا، مُقَرِّبٌ بَيْنَ