وَلَوْ فَكَّرُوا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ، وَجِسِيمِ النِّعْمَةِ، لَرَجَعُوا إِلَى الطَّرِيقِ، وَخَافُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، وَلكِنِ الْقُلُوبُ عَلِيلَةٌ، وَالْبَصَائِرُ مَدْخُولَةٌ! أَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى صَغِيرِ مَا خَلَقَ، كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ، وَأَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ، وَفَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ، وَسَوَّى لَهُ الْعَظْمَ وَالْبَشَرَ! انْظُرُوا إِلَى الَّنمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا، وَلَطَافَةِ هَيْئَتِهَا، لاَ تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ (النّظر)، وَلاَ بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ، كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا، وَصُبَّتْ (ضنّت) عَلَى رِزْقِهَا، تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا، وَتُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا. تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا، وَفِي وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا. مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا، مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا; لاَ يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ، وَلاَ يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ، وَلَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ، وَالْحَجَرِ الْجَامِسِ! وَلَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا، فِي عُلْوِهَا وَسُفْلِهَا، وَمَا فِي الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا، وَمَا فِي الرَّأْسِ مِنْ عَيْنِهَا وَأُذُنِهَا، لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً، وَلَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً! فَتَعَالَى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا، وَبَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا! لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ، وَلَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ. وَلَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ، مَا دَلَّتْكَ الدَّلاَلَةُ إِلاَّ عَلَى أَنَّ فَاطِرَ الَّنمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ (النّحلة)، لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْء، وَغَامِضِ اخْتِلاِفِ كُلِّ حَيٍّ (شىء). وَمَا الْجَلِيلُ وَاللَّطِيفُ، وَالثَّقِيلُ وَالْخَفِيفُ، وَالْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ، فِي خَلْقِهِ إِلاَّ سَوَاءٌ، وَكَذلِكَ السَّمَاءُ وَالْهَوَاءُ، وَالرِّيَاحُ وَالْمَاءُ. فَانْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ، وَالْمَاءِ وَالْحَجَرِ، وَاخْتِلاَفِ هذَا اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَتَفَجُّرِ هذِهِ الْبِحَارِ، وَكَثْرَةِ هذِهِ الْجِبَالِ، وَطُولِ هذِهِ الْقِلاَلِ. وَتَفَرُّقِ هذِهِ اللُّغَاتِ، وَالاَْلْسُنِ الُْمخْتَلِفَاتِ. فَالْوَيْلُ لِمَنْ أَنْكَرَ الْمُقَدِّرَ، وَجَحَدَ الْمُدَبِّرَ!
زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارِعٌ، وَلاَ لاِخْتِلاَفِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ; وَلَمْ يَلْجَؤُوا إِلَى حُجَّة فِيما ادَّعَوْا، وَلاَ تَحْقِيق لِمَا أَوْعَوْا. وَهَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بَان، أَوْ جِنَايَةٌ مِنْ غَيْرِ جَان؟!
وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ، إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ، وَأَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ، وَ