ثمّ إلى سليمان بن داود فقد كان مع ما هو
فيه من الملك العظيم يلبس الشّعر و إذا جنّه اللّيل شدّ يديه إلى عنقه فلا يزال
قائما باكيا حتّى يصبح، و كان قوته من سفائف الخوص يعملها بيده، و هكذا كان حال
ساير الأنبياء في إعراضهم عن الدّنيا.
و أمّا سيّد
البشر فوصف حاله إجمالا قد مرّ و قد تقدّم أنّ فيه كافيا لك في الاتباع به و
الاهتداء بهداه، و لذلك عقّبه بالأمر بالتّأسّي به و أردفه بوصف حاله تفصيلا فقال (فتأسّ
بنبيّك الأطيب الأطهر 6) و اتّبع له (فانّ فيه
اسوة لمن تأسّى و عزاء لمن تعزّى) أى نسبة لمن انتسب (و أحبّ العباد
إلى اللّه المتأسّى بنبيّه و المقتصّ) المتتبّع (لاثره) و إنّما كان
أحبّ العباد إليه سبحانه لقوله تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ قال الفخر الرّازي: قال المتكلّمون محبّة
اللّه للعبد عبارة عن إرادته تعالى ايصال الخيرات و المنافع في الدّين و الدّنيا
إليه، و قال بعض المحقّقين: و من المتكلّمين من أنكر محبّة اللّه لعباده كالزمخشري
و أترابه، زعما منهم أنّ ذلك يوجب نقصا في ذاته و لم يعلموا أنّ محبّة اللّه تعالى
لخلقه راجعة إلى محبّة ذاته، هذا.
و قوله (قضم
الدّنيا قضما) استيناف بيانيّ، فانّه لمّا ذكر أنّ أحبّ العباد إلى اللّه من اقتصّ
أثر النّبيّ 6، و كان ذلك مظنّة لأن يسأل عن الأثر
الذي يقتصّ أردف بهذا الكلام و ما يتلوه جوابا لهذا السّؤال المتوهّم، و تفصيلا
لما فيه الاسوة، و به يكون الاقتصاص، و أراد بقضمه اقتصاره 6 في الدّنيا على قدر الضّرورة إذا لقضم يقابل الخضم و الأوّل أكل الشيء
اليابس بأطراف الأسنان، و الثاني الأكل بالفم كلّه للأشياء الرّطبة كما قال 7 في وصف حال بني اميّة في الخطبة الشقشقيّة: يخضمون مال اللّه خضم الابل
نبتة الرّبيع، و في حديث أبي ذر «رض» يخضمون و نقضم و الموعد للّه كنايه (و لم
يعرها طرفا) أى لم يعطها نظرة على وجه العارية فكيف بأن يجعلها مطمح نظره، و هو
كناية عن عدم التفاته إليها (أهضم أهل الدّنيا كشحا و أخمصهم