إذ من دنائة
الكذب أنّه يردّ شهادة صاحبه و إن كان صادقا، و من شرافة الصّدق أنّه يقبل شهادة
المتّصف به و إن كان كاذبا، و منشأ الكذب دنائة الهمّة و قلّة المروّة و غلبة
الحرص و الخسّة، و منشأ الصّدق ارتفاع الهمّة و غلبة المروّة و كمال الفتوّة و
الكذب شعار خلق، و مورد رنق، و أدب سيّيء، و خلق رديّ، و عادة خسيسة، و صفة
خبيثة، و قلّ ما يجلب به الالفة، و قلّ من ألفه إلّا أتلفه، و الصّدق لباس بهيّ و
جوهر درّي؛ و صفة و صيفة، و حالة شريفة، جالبة للالفة، كاسبة للمودّة، خدمته
القلوب بالمحبّة، لحظته العيون بالمهابة.
و كفى لقبحه
شرعا لو لم يرد به خبر إلّا قول أمير المؤمنين في رواية الكافي عن أصبغ بن نباتة
عنه 7 لا يجد عبد طعم الايمان حتى يترك الكذب هزله و جدله «جدّه ظ» و
كيف بذلك و الأخبار الواردة فيه فوق حدّ الاستفاضة كما مضى سابقا.
و يزيد على
ساير المعاصي بأنّ أصحاب الكباير ربّما يلحقهم الحياء و الخجل من سوء عملهم، و
يرجعون عن عملهم القبيح و يتوبون عنه، و أمّا الكاذب فلا يستحيى من كذبه لكونه
كثير الاستعمال و مأنوسا مرفوع القبح عن نظره، و من تعوّد نفسه بذلك قلّ أن يرتدع
عنه.
و من هنا قيل
رأيت شريب خمر نزع، و لصّا أقلع، و صاحب فواحش ارتدع و ما رأيت كاذبا رجع.
إذا عرفت ذلك
فنقول: إنّ الكذب على قسمين: شرعىّ و غير شرعيّ، و أعنى بالشّرعي ما يجوز في
الشّرع جوازا بالمعنى الأعم، و بالغير الشرعي خلافه و أعني به الحرام و
هو على
قسمين جليّ و خفيّ
أما الجلى
فهو على قسمين.
أحدهما
الكذب في حقّ النّاس
أو في حقّ
نفسه أو غيرهما، بأن يقول: وعدني فلان كذا مع أنّه لم يعده بشيء أو يقول أعطيت
فلانا كذا مع أنّه لم يعطه شيئا، أو أنّي عالم بكذا مع أنّه جاهل به، أو نحو ذلك.