تقليل و تحقير لما بقي منها لكلّ شخص شخص
من النّاس، فانّ بقاء ماله على حسب بقائه فيها و بقاء كلّ شخص فيها يسير و وقته
قصير، و استعار لفظ السّملة لبقيتها و شبهها بقيّة الماء في الاداوة و بجرعة
المقلة، و وجه الشّبه ما أشار إليه بقوله:
لو تمزّزها
الصّديان لم ينقع، أى كما أنّ العطشان الواجد لبقيّة الماء في الاداوة أو الجرعة
لو تمصّصها لم ينقع عطشه، كذلك طالب الدّنيا المتعطش إليها الواجد لبقيّة عمره و
لليسير من الاستمتاع فيه بلذّات الدّنيا لا يشفى ذلك غليله و لا يسكن عطشه.
ثمّ أنّه بعد
التّنبيه على تحقير الدّنيا و التّنفير عنها أمر بالرّحيل عنها بقوله (فازمعوا
عباد اللّه الرّحيل عن هذه الدّار المقدور على أهلها الزوال) يعنى إذا كانت
الدّنيا بهذه المثابة من الدّنائة و الحقارة معقبة صفوها للكدورة متغيّرة حلاوتها
إلى المرارة فلا بدّ لكم من العزم على الرّحيل عنها بقطع العلايق الدّنيوية عن
القلب و الاقبال إلى اللّه و الرغبة إلى رضوان اللّه مع ما قدّر في حقّ أهلها من
الزّوال و كتب لسكانها من الرّحيل و الانتقال، أفلا تنظر إلى الامم الماضية و
القرون الفانية و إلى من عاشرتهم من صنوف النّاس و شيّعتهم إلى الارماس كيف
اخترمتهم أيدى المنون من قرون بعد قرون، أ و لا تعتبر ممّن مضى من أسلافك و من
وارته الأرض من الافّك، و من فجعت به من اخوانك و نقلت إلى دار البلا من أقرانك.
فهم في بطون الارض بعد ظهورها
محاسنهم فيها بوال دواثر
خلت دورهم منهم و اقوت عراصهم
و ساقتهم نحو المنايا المقادر
و خلوا عن الدّنيا و ما جمعوا لها
و ضمّتهم تحت التّراب الحفاير
(و) بعد ما اعتبرت بما رأيته من الأهلين و
الاخوان، و ادّكرت بما شاهدته من الامثال و الأقران فالبتة (لا يغلبنكم فيها
الأمل و لا يطولنّ عليكم) فيها (الأمد) أى لا تتوّهم طول
مدة البقاء فيها مع ما شاهدت من قصر مدّتها و قرب زوالها.
و الفصل
الثاني
متضمّن
للتّنبيه على عظيم ثواب اللّه و عقابه، فانّه بعد ما نبّه على تحقير الدّنيا و
التّحذير عنها و أمر بالعزم على الجدّ و الارتحال أشار إلى ما ينبغي أن يهتمّ به