فمكث فيروز برهة من دهره كئيبا، ثمّ حمله الأنف على أن يعود لغزوه و
دعا أصحابه إلى ذلك فردّوه عنه و قالوا: إنّك قد عاهدته و نحن نتخوّف عليك عاقبة
البغي و الغدر مع ما في ذلك من العار و سوء المقالة.
فقال لهم:
إنّي شرطت له ألّا أجوز الحجر الّذي جعلته بيني و بينه فأنا آمر بالحجر ليحمل على
عجلة أمامنا.
فقالوا له:
أيّها الملك إنّ العهود و المواثيق الّتي يتعاطاها النّاس بينهم لا تحمل على ما
يسرّ المعطي لها و لكن على ما يعلن المعطي، و إنّك إنّما جعلت له عهد اللّه و
ميثاقه على الأمر الّذي عرفه لا على أمر لم يخطر بباله.
فأبى فيروز و
مضى في غزاته حتّى انتهى إلى الهياطلة و تصافّ الفريقان للقتال فأرسل اخشنوار إلى
فيروز يسأله أن يبرز فيما بين صفّيهم ليكلّمه، فخرج إليه.
فقال له
اخشنوار: قد ظننت أنّه لم يدعك إلى غزونا إلّا الأنف ممّا أصابك و لعمري لئن كنّا
احتلنا لك بما رأيت لقد كنت التمست منّا أعظم منه، و ما ابتدأناك ببغي و لا ظلم و
لا أردنا إلّا دفعك عن أنفسنا و عن حريمنا، و لقد كنت جديرا أن تكون مكافأتنا
بمنّنا عليك و على من معك من نقض العهد و الميثاق الّذي وكّدت على نفسك أعظم أنفا
و أشدّ امتعاظا ممّا نالك منّا فإنّا أطلقناكم و أنتم أسرى، و مننّا عليكم و أنتم
مشرفون على الهلكة، و حقنّا دماءكم و بنا قدرة على سفكها، و إنّا لم نجبرك على ما
شرطت لنا بل كنت أنت الرّاغب إلينا فيه، و المريد لنا عليه؛ ففكّر في ذلك، و ميّل
بين هذين الأمرين فانظر أيّهما أشدّ عارا و أقبح سماعا: إن طلب رجل أمرا ينح له، و
سلك سبيلا فلم يظفر فيها ببغيته، و استمكن منه عدوّه على حال جهد وضيعة منه و ممّن
معه فمنّ عليهم و أطلقهم على شرط شرطوه و أمر اصطلحوا عليه فاضطرّ لمكروه القضاء،
و استحيا من النّكث و الغدر؛ أم يقال[1] امرؤ نكث
العهد و ختر الميثاق؟
[1] كان في الاصل: أن يقال، و الصواب: أم يقال كما صححناه في
المتن لانه عدل ان طلب. منه.