أحوالها
(أحوال مختلفة) إن جانب منها اعذوذب و احلولى أمرّ منها جانب
فأوبى، لم تطل على أحد فيها ديمة رخاء إلّا هتنت عليه مزنة بلاء، و لم يمس امرء
منها في جناح أمن إلّا أصبح على قوادم خوف.
(و تارات
متصرّفة) يعني أنّ حالاتها تتغيّر بأهلها تارة بعد اخرى، و مرّة بعد مرّة،
فانّها تنقل أقواما من الجدب إلى الخصب و من الرّجلة إلى الرّكب، و من البؤس إلى
النّعمة، و من الشدّة إلى الرّخاء، و من الشّقاء إلى الرّاحة، ثمّ تنقلب بهم
فتسلبهم الخصب و تنزع منهم النّعمة و الرّاحة.
و محصّله
أنّها دار تصرّف و انتقال و تقلّب من حال إلى حال صحّتها تتبدّل
بالسّقم، و شبابها بالهرم، و غناها بالفقر، و فرحها بالتّرح، و سرورها بالحزن، و
عزّها بالذّل، و أمنها بالخوف.
بينا ترى
المرء فيها مغتبطا محبورا و ملكا مسرورا في خفض و دعة و نعمة و لذّة و أمن وسعة،
في بهجة من شبابه و حداثة من سنّه، و بهاء من سلطانه، و صحّة من بدنه إذا انقلبت
به الدّنيا أسرّ ما كان فيها قلبا، و أطيب ما كان فيها نفسا، و أقرّ ما كان فيها
عينا، و ألذّ ما كان فيها عيشا، فأخرجته من ملكها و غبطتها و خفضها و دعتها و
بهجتها، فأبدلته بالعزّ ذلّا، و بالسّرور حزنا، و بالنّعمة نقمة، و بالغنى فقرا، و
بالسّعة ضيقا، و بالشّباب هرما، و بالشّرف ضعة و بالحياة موتا.
ففارق
الأحبّة و فارقوه، و خذله إخوانه و تركوه، و صار ما جمع فيها مفرّقا و ما عمل فيها
متبّرا، و ما شيّد فيها خرابا و صار اسمه مجهولا، و ذكره منسيّا، و حسبه خاملا، و
جسده باليا، و شرفه وضيعا، و نعمته وبالا، و كسبه خسارا، و ورث أعداؤه سلطانه، و
استذلّوا عقبه، و استباحوا حريمه، و تملّكوا أمواله، و نقضوا عهده و ملكوا جنوده،
فافّ و تفّ لدار حالها هذا، و شأن ساكنها ذلك، وفّقنا اللّه تعالى للزّهد فيها و
الاعراض عنها.
و بما ذكرنا
ظهر أنّ (العيش فيها مذموم) و أراد بالعيش التّرفّه فيها و التنعّم
بلذّاتها و الالتذاذ بشهواتها و إنّما كان مذموما لكونه شاغلا عن التّوجّه