أنفد سعة ما عنده، و لكان عنده من ذخاير
الأنعام ما لا تنفده مطالب الأنام، لأنّه الجواد الّذى لا يغيضه سؤال السّائلين، و
لا يبخّله إلحاح الملحّين حسبما مرّ في الخطبة التّسعين.
(و لا
يلويه) أى لا يصرفه (شخص عن شخص و لا يلهيه) أى لا
يشغله (صوت عن صوت) لأنّ الصّرف و اللّهو يستلزمان الغفلة عن أمر
و الفطنة لغيره بعد الغفلة عنه و هما من عوارض المزاج الحيواني و توابع الامكان.
(و لا
تحجزه هبة عن سلب) أى لا يمنعه البذل و الانعام عن سلب المال و
أخذه قال الشّارح المعتزلي: أى ليس كالقادرين منّا فانّ الواحد منّا يصرفه اهتمامه
بعطيّة عن سلب مال عمرو حال ما يكون مهتمّا بتلك العطيّة لأنّ اشتغال
القلب بأحد الأمرين يشغله عن الاخر، انتهى.
أقول: و
محصّله أنّه تعالى لا يشغله شأن عن شأن، و يحتمل أن يراد به أنّه تعالى لا يمنعه
هبته لأحد و إنعامه عليه عن سلب نعمة اخرى عنه كالواحد منّا إذا وهب يمنعه هبته عن
سلبه، لاستلزام الهبة فينا التلطف و العطف، و استلزام السلب فينا الغيظ و الغضب، و
هما أمران متضادّ ان لا يمكن اجتماعهما في شخص واحد في حالة واحدة، فلا يكون
الواهب حال ما هو واهب سالبا و بالعكس، و أمّا الواجب تعالى فلمّا لم يكن منشأ
هبته و سلبه العطف و الغضب لكونهما من عوارض المزاج الحيوانى و تنزّهه عنها جاز
اتّصافه بهما معا.
و هذان
الاحتمالان يأتيان في قوله (و لا يشغله غضب عن رحمة) و المراد
بهما غايتهما، أى العقاب و الاحسان لا معناهما المعروف المستلزم للحدوث و
النّقصان.
و أمّا قوله (و لا
تولهه رحمة عن عقاب) فقد قال الشارح المعتزلي أى لا يحدث الرّحمة لمستحقها
عنده ولها و هو التحيّر و التردّد و يصرفه عن عقاب المستحقّ، و ذلك
لأنّ الواحد منّا إذا رحم انسانا حدث عنده رقّة خصوصا إذا توالت منه الرّحمة لقوم
متعدّدين فانه يصير الرّحمة كالملكة عنده فلا يطيق فى تلك الحال أن ينتقم