و لا المحبّة إلّا باستخراج الدّين و
اتباع الهوى، فمن أدرك ذلك الزّمان فصبر على الفقر و هو يقدر على الغنى، و صبر على
البغضة و هو يقدر على المحبّة، و صبر على الذّل و هو يقدر على العزّ آتاه اللّه
ثواب خمسين صدّيقا ممّن صدّق بي، هذا و في وصف أيّام الصبر بالقصر و الرّاحة
بالطول تحريص و ترغيب اليه، و أكّد ذلك بقوله استعاره مرشحة (تجارة
مربحة) استعار لفظ التجارة لاكتسابهم الرّاحة في مقابل الصبر، و
رشّح بلفظ الرّبح.
و كونها
مربحة باعتبار قصر مدّة الصّبر على المكاره و طول مدّة الرّاحة و فناء الشّهوات
الدّنيويّة و اللّذائذ النّفسانيّة و بقاء السّعادات الاخرويّة مضافة إلى خساسة
الاولى في نفسها و حقارتها، و نفاسة الثّانية و شرافتها.
و أكّد ثالثا
بقوله (يسّرها لهم ربّهم) يعني أنّ فوزهم بتلك النّعمة العظمى و
السّعادة الدّائمة قد حصل بتوفيق اللّه سبحانه و تأييده و لطفه، ففيه ايماء إلى
توجّه العناية الرّبانيّة إليهم و شمول الألطاف الالهيّة عليهم و إلى كونهم بعين
رحمة اللّه و كرامته و الخامس عشر أنّهم (أرادتهم الدّنيا فلم يريدوها) أى أرادت
عجوزة الدّنيا أن تفتنهم و تغرّهم و أن يتزوّجوا بها، فأعرضوا عنها و زهدوا فيها
بما كانوا يعرفونه من حالها و أنّها قتّالة غوّالة ظاهرة الغرور كاسفة النّور يونق
منظرها و يوبق مخبرها قد تزيّنت بغرورها و غرّت بزينتها لا تفي بأحد من أزواجها
الباقية كما لم تف بأزواجها الماضية.
(و) السادس عشر
أنّ الدّنيا (أسرتهم ففدوا أنفسهم منها) الأشبه أن يكون
المراد بقوله: أسرتهم، هو الاشراف على الاسر، يعني أنّهم بمقتضى المزاج الحيواني
و القوى النّفسانيّة الّتي لهم كاد أن تغرّهم الدّنيا فيميلوا إليها و يقعوا في
قيد اسره و سلسلة رقيّته، لكنّهم نظروا إليها بعين البصيرة و عرفوها حقّ المعرفة و
غلب عقلهم على شهوتهم فرغبوا عنها و زهدوا فيها و أعرضوا عن زبرجها و زخارفها،
فالمراد بفداء أنفسهم منها هو الاعراض عن الزّخارف الدّنيويّة، فكأنّهم
بذلوا تلك الزّخارف