(و لتحيّرت عقولها في علم ذلك و تاهت و
عجزت قواها و تناهت) فانها على صغرها و ضعفها قد ودع فيها من
بدايع الصنع و عجائب الخلقة ما لا يخفى، فانه سبحانه قد خلقها على خلقة الفيل إلّا
أنّه أكثر أعضاء من الفيل، فانّ للفيل أربع أرجل و خرطوما و ذنبا، و لها مع هذه
الأعضاء رجلان زايدتان و أربعة أجنحة، و خرطوم الفيل مصمت و خرطومها مجوّف نافذ
للجوف، فاذا طعنت به جسد الانسان استقى الدّم و قذفت به إلى جوفها فهولها كالبلعوم
و الحلقوم و لذلك اشتدّ عضّها و قويت على خرق الجلود الغلاظ قال الراجز:
مثل السّفاة دائما طنينها
ركّب في خرطومها سكّينها
و مما ألهمها
اللّه تعالى أنّها إذا جلست على عضو الانسان لا تزال تتوخى بخرطومها المسام التي
يخرج منها العرق لأنها أرقّ بشرة من الجلد، فاذا وجدها وضعت خرطومها فيها و فيها
من الشره أن تمصّ الدّم الى أن تنشقّ و تموت أو إلى أن تعجز عن الطيران فيكون ذلك
سبب هلاكها.
و كان بعض
الجبابرة من الملوك يعذّب بالبعوض فيأخذ من يريد قتله فيخرجه مجرّدا إلى بعض
الاجام التي بالبطايح و يتركه فيها مكتوفا فيقتل في أسرع وقت و أقرب زمان قال
الفتح البستي في هذا المعنى:
لا تستخفنّ الفتى بعداوة
أبدا و إن كان العدوّ ضئيلا
إنّ القذى يؤذى العيون قليله
و لربّما جرح البعوض الفيلا
و قال آخر:
لا تحقرّن صغيرا في عداوته
إنّ البعوضة تدمي مقلة الأسد
فقد ظهر من
ذلك أنّ عقول العقلاء لو فكرت في ايجادها و فيما أبدع من عجايب الصنع لتحيّرت و
تاهت و عرفت أنّ القوى عاجزة عن ايجادها.
(و رجعت خاسئة) أى صاغرة ذليلة (حسيرة
عارفة بأنها مقهورة) عاجزة غير متمكّنة (مقرّة بالعجز عن انشائها مذعنة
بالضعف عن إفنائها) فان قلت: كيف تذعن العقول بالضعف عن إفناء البعوضة مع
إمكان ذلك