و الذي ينبغي أن يصار إليه هو أن يقال:
لمّا ثبت كون الواجب عالما بذاته، لزم كونه عالما بجميع الموجودات، فانّ ذاته علة
موجبة لجميع ما عداه، و مبدء لفيضان كلّ إدراك حسيّا كان أو عقليّا، و منشأ لكل
ظهور، ذهنيّا كان أو عينيّا، إمّا بدون واسطة، أو بواسطة هي منه، و العلم التّام
بالعلة الموجبة يستلزم العلم التّام بمعلولها، لأنّ المعلول من لوازم ذات العلة
التّامة، فيلزم من تعقلها بكنهه، أو بالوجه الذي ينشأ منه المعلول: تعقله، فلزم
كونه عالما بجميع المعلومات، و أما معرفة كنه هذا الحضور و العلم فلا سبيل لنا
إليه كما لا سبيل لنا إلى إدراك ذاته.
و لنعم ما
قال المدقق السّابق في كتاب المبدأ، حيث قال: و أمّا كيفيّة علمه بالأشياء بحيث لا
يلزم منه الاتّحاد، و لا كونه فاعلا و قابلا، و لا كثرة في ذاته بوجه غير ذلك،
تعالى عنه علوّا كبيرا، فاعلم أنّها من أغمض المسائل الحكميّة، قل من يهتدي إليه
سبيلا، و لم يزل قدمه فيها، حتّى الشّيخ الرّئيس[1]
أبي علي بن سينا، مع براعته و ذكائه الذي لم يعدل به ذكاء، و الشّيخ الالهي صاحب
الاشراق مع صفاء ذهنه و كثرة ارتياضه بالحكمة، و مرتبة كشفه، و غيرهما من الفايقين
في العلم، و إذا كان هذا حال أمثالهم فكيف من دونهم من اسراء عالم الحواس، مع غشّ
الطبيعة و مخالطتها.
و لعمرى إن
إصابة مثل هذا الأمر الجليل على الوجه الذي يوافق الاصول الحكميّة، و يطابق
القواعد الدّينيّة، متبرّءا عن المناقشات، و منزّها عن المؤاخذات، في أعلى طبقات
القوى الفكريّة البشريّة، و هو بالحقيقة تمام الحكمة الحقّة الالهية انتهى.
أقول: و
لصعوبة ذلك لم يأتوا : في الجواب عن هذه المسألة في الأحاديث السّالفة
و غيرها مع كثرتها، إلّا بكلام مجمل من غير تفصيل، لما رأوا قصور الأفهام و
المدارك عن دركها[2] تفصيلا،
فسبحان من عجز عن إدراك ذاته الأفهام