وصول بعض السفن الإنكليزية، لكي يبحروا فيها إلى أوروبا، و كنت في حالة التمييل بين أن أترك رفاقي في السفر، و أن أخسر مبلغا جزيلا من الدنانير بملازمتهم و مرافقتهم، فاخترت الأمر الأخير من الأمرين و نزلت إلى البر، و استأجرت مثوى في الدار الّتي سكن فيها المسافرون الآخرون، و صاحب مثوانا اسمه «بارنيت» و هو أيكوسي الأصل، مداهن ذو وجهين [1] فوافقت على أن أدفع إليه عشر روبيات كل يوم للسكن و الطعام، و لم يكن معه إلّا زوجة و طفلان و خمسة عبيد، و مع أنّنا كنّا في داره خمسة عشر إنسانا و فينا خدمنا كان يتدارك حتّى حاجاتنا الصغرى و يبادر إلى تحقيق رغباتنا.
و قبيل وصولنا إلى هذه البلدة كان الإنكليز قد استولوا على مدينة الكاب و ركزوا فيها حامية عدّتها خمسة آلاف جندي أوروبي في قيادة المقدم «دنداس [2]» و كان يقوم بوظيفة الحاكم فيها أيضا، لغياب حاكمها اللورد «ماكارتني» و الضابط «كولينز» كان يقود جنود خليج «فالس بي» المقدم ذكره آنفا، فذهبت إليه أزوره، فتلقاني بأعظم أدب و في الغد جاءني يزورني، كفاء لزيارتي و دعاني إلى التغدّي في داره، و دعا معي جماعة كبيرة و كانت مائدته نفيسة [3]، و لم أكن أفهم أيّامئذ إلّا قليلا من اللغة الإنكليزية. و مع ذلك فهكذا كانت ظرافة الضابط «كولنز» و زوجته «المسزس. [4] كولنز» تلك الظرافة الّتي جعلتني أقضي ظهيرة جد مستحسنة في حياتي. و كان الضابطان «لي» و «كوج» اللذان يقودان السفينتين الحربيتين المقدم ذكرهما آنفا قد تلقياني أسرع تلق و دعواني مرتين إلى مشاهدة احتفالين عيديين أقاماهما على سفينتيهما، و أمرا بإطلاق عدّة إطلاقات مدفعية إعلانا بوصولي و بمغادرتي للسفينتين، و أفاضا عليّ أخيرا كل التكريم الّذي جرت العادة بإفاضته على أعيان الزمان.
و لم تنسلخ مدة طويلة على إقامتي في دار المستر «بارنيت» حتّى شعرت بتبدل كبير في سيرته، فكانت المائدة في كل يوم أردأ ممّا قبلها، و أحيانا كان يسيء معاملتنا، و جاءني ذات يوم يرجو منّي تبديل مثواي، بمثوى أصغر منه
[1] جاء في الترجمة أنّه كان حرا منافقا و هما صفتان متناقضتان. (م).
[2] ذكر الرحالة هذا المقدم كأنّه من معروفيه و لم يقل «في قيادة مقدم اسمه كذا و كذا». (المترجم).