نام کتاب : البداية و النهاية نویسنده : ابن كثير الدمشقي جلد : 10 صفحه : 214
الخلافة في سنة سبعين كان من أحسن الناس سيرة و أكثرهم غزوا و حجا، و لهذا قال فيه أبو السعلي [1]:
فمن يطلب لقاءك أو يرده* * * فبالحرمين أو أقصى الثغور
ففي أرض العدو على طمر* * * و في أرض الترفه [2] فوق كور
و ما حاز الثغور سواك خلق* * * من المتخلفين على الأمور
و كان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم، و إذا حج أحج معه مائة من الفقهاء و أبنائهم و إذا لم يحج أحج ثلاثمائة بالنفقة السابغة و الكسوة التامة، و كان يحب التشبه بجده أبي جعفر المنصور إلا في العطاء، فإنه كان سريع العطاء جزيله، و كان يحب الفقهاء و الشعراء و يعطيهم، و لا يضيع لديه بر و معروف، و كان نقش خاتمه لا إله إلا اللَّه. و كان يصلي في كل يوم مائة ركعة تطوعا، إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة، و كان ابن أبي مريم هو الّذي يضحكه، و كان عنده فضيلة بأخبار الحجاز و غيرها، و كان الرشيد قد أنزله في قصره و خلطه بأهله. نبهه الرشيد يوما إلى صلاة الصبح فقام فتوضأ ثم أدرك الرشيد و هو يقرأ وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي [يس: 22] فقال ابن أبي مريم:
لا أدري و اللَّه. فضحك الرشيد و قطع الصلاة، ثم أقبل عليه و قال: ويحك اجتنب الصلاة و القرآن و قل فيما عدا ذلك. و دخل يوما العباس بن محمد على الرشيد و معه برنية من فضة فيها غالية من أحسن الطيب، فجعل يمدحها و يزيد في شكرها، و سأل من الرشيد أن يقبلها منه فقبلها فاستوهبها منه ابن أبي مريم فوهبها له، فقال له العباس: ويحك! جئت بشيء منعته نفسي و أهلي و آثرت به أمير المؤمنين سيدي فأخذته. فحلف ابن أبي مريم ليطيبن به استه، ثم أخذ منها شيئا فطلى به استه و دهن جوارحه كلها منها، و الرشيد لا يتمالك نفسه من الضحك. ثم قال لخادم قائم عندهم يقال له خاقان: اطلب لي غلامي. فقال الرشيد: ادع له غلامه. فقال له: خذ هذه الغالية و اذهب بها إلى ستك فمرها فلتطيب منها استها حتى أرجع إليها فأنيكها. فذهب الضحك بالرشيد كل مذهب، ثم أقبل ابن أبي مريم على العباس بن محمد فقال له: جئت بهذه الغالية تمدحها عند أمير المؤمنين الّذي ما تمطر السماء شيئا و لا تنبت الأرض شيئا إلا و هو تحت تصرفه و في يده؟ و أعجب من هذا أن قيل لملك الموت: ما أمرك به هذا فأنفذه. و أنت تمدح هذه الغالية عنده كأنه بقال أو خباز أو طباخ أو تمار، فكاد الرشيد يهلك من شدة الضحك. ثم أمر لابن أبي مريم بمائة ألف درهم.