ثم استدعى عبد الملك بن حبيب وسأله عن قدر ما يؤهّله لتلك المرتبة من الغنى ، فذكر له عددا ، فأمر له به في الحين ، ونبّه قدره بأن أعطاه من إصطبله مركوبا ، وكانت هذه أكرومة لا خفاء بعظمها : [الكامل]
يفنى الزمان وما بنته مخلّد
ثم إنه إذا كان له من الغنى ما يكفّه [١] عن أموال الناس ، ومن الدين ما يصدّه عن محارم الله تعالى ، ومن العلم ما لا يجهل به التصرّف في الشريعة ، أباحوا له الفتوى والشهادة ، وجعلوا علامة لذلك بين الناس القلانس [٢] والرداء.
وأهل قرطبة أشدّ الناس محافظة على العمل بأصحّ الأقوال المالكية ، حتى أنهم كانوا لا يولّون حاكما إلّا بشرط أن لا يعدل في الحكم عن مذهب ابن القاسم.
وقال ابن سارة لمّا دخل قرطبة [البسيط] :
الحمد لله قد وافيت قرطبة
دار العلوم وكرسيّ السلاطين
وهي كانت مجمع جيوش الإسلام ، ومنها نصر الله على عبدة الصليب.
يقال : إن المنصور بن أبي عامر ـ حين تمّ له ملك البرّين ، وتوفّرت الجيوش والأموال ـ عرض بظاهر قرطبة خيله ورجله ، وقد جمع من أقطار البلاد ما ينهض به إلى قتال العدوّ وتدويخ بلاده ، فنيّف الفرسان على مائتي ألف ، والرّجّالة على ستمائة ألف. وبها حتى الآن من صناديد المسلمين وقوادهم من لا يفتر عن محاربة [٣] ، ولا يملّ من مضاربة ، من [٤] أسماؤهم بأقاصي بلاد النصارى مشهورة ، وآثارهم فيها مأثورة ، وقلوبهم على البعد بخوفهم معمورة.
ويحكى أن العمارة في مباني قرطبة والزهراء اتّصلت إلى أن كان يمشى فيها بضوء [٥] السّرج المتّصلة عشرة أميال ، وأمّا جامعها الأعظم فقد سمعت أنّ ثريّاته من نواقيس النصارى ، وأنّ الزيادة التي زاد في بنائه ابن أبي عامر من تراب نقله النصارى على رؤوسهم ممّا هدم من