وقال أبو العرب بن معيشة الكناني السبتي : أخبرني شيخ من أهل إشبيلية كان قد أدرك دولة آل عباد ، وكان عليه من أثر كبر السنّ ودلائل التعمير ما يشهد له بالصدق ، وينطق بأنّ قوله الحقّ ، قال : كنت في صباي حسن الصورة ، بديع الخلقة ، لا تلمحني عين أحد إلّا ملكت قلبه ، وخلبت خلبه [١] ، وسلبت لبّه ، وأطلت كربه ، فبينا أنا واقف على باب دارنا إذا بالوزير أبي بكر بن عمار قد أقبل في موكب زجل [٢] ، على فرس كالصخرة الصّمّاء قدّت من قنّة [٣] الجبل ، فحين حاذاني ورآني اشرأبّ إليّ ينظرني وبهت يتأمّلني ، ثم دفع بمخصرة كانت بيده في صدري ، وأنشد : [مجزوء الكامل]
كفّ هذا النّهد عنّي
فبقلبي منه جرح
هو في صدرك نهد
وهو في صدري رمح
وعبر في «البدائع» على طريقة القلائد بما صورته : ذكر الفتح بن خاقان ما هذا معناه: أخبرني ذو الوزارتين أبو المطرف بن عبد العزيز أنه حضر عند المؤتمن بن هود في يوم أجرى الجوّ فيه أشقر برقه ، ورمى بنبل ودقه ، وحملت الرياح فيه أوقار السحاب على أعناقها ، وتمايلت قامات الأغصان في الحلل الخضر من أوراقها ، والأزهار قد تفتّحت عيونها ، والكمائم قد ظهر مكنونها ، والأشجار قد انصقلت بالقطر ، ونشرت ما يفوق ألوان البز وبثّت ما يعلو العطر ، والراح قد أشرقت نجومها في بروج الراح [٤] ، وحاكت شمسها شمس الأفق فتلفّعت بغيوم الأقداح ، ومديرها قد ذاب ظرفا فكاد يسيل من إهابه [٥] ، وأخجل خدّها حسنا فتكلّل بعرق حبابه ، إذا بفتى رومي من أصبح فتيان المؤتمن قد أقبل متدرّعا كالبدر اجتاب سحابا ، والخمر اكتست حبابا ، والطاووس انقلب حبابا ، فهو ملك حسنا إلّا أنه جسد ، وغزال لينا إلّا أنه في هيئة الأسد ، وقد جاء يريد استشارة المؤتمن في الخروج إلى موضع كان عوّل فيه عليه ، وأمره أن يتوجّه إليه ، فحين وصل إلى حضرته لمحه ابن عمار والسكر قد استحوذ على لبّه ، وانبثّت سراياه في ضواحي قلبه [٦] ، فأشار إليه وقرّبه ، واستبدع ذلك اللباس واستغربه ، وجدّ في أن يستخرج تلك الدّرّة من ماء ذلك الدّلاص [٧] ، وأن يجلي عنه كما يجلى الخبث عن
[١] خلبه : استمال قلبه. والخلب ـ بكسر الخاء وسكون اللام : حجاب القلب ، وأراد هنا : القلب.
[٢] الزّجل : الذي يرفع صوته بالتطريب ، وأراد هنا الموكب ذا الصوت المرتفع.