ومع ذلك ، فلو انتهت خطّة القضاء إلى عليّان أوماني [١] ، لم تكن في الشّناعة كانتهائها إلى العمراني [٢] بحضرة مرّاكش [٣] ، كلأها الله! ولا كلأ القاضي المذكور حيّا وميّتا! فإنّه منجنيق ظلم ترمى به قواعد الدّين ، ونفط [٤] فساد يضرم قلوب المهتدين ، وقد وفّق الله لخضد [٥] شوكته ، وإخماد جمرته أمير المؤمنين [٦] ـ أيّده الله ـ فأغمد من جوره سيفا قاطعا ، وعوّض المسلمين من ظلامه ضياء ساطعا. ومن بعض غرائبه الّتي شاهدتها أنّ قوما ادّعي عليهم القتل ، وأثبت المدّعي دعواه بوثيقة عليها إعلامه بصحتّها ، فاحتجّوا بأنّ لهم مدفعا ، فطلب المدّعي تثقيفهم [٧] كما يجب شرعا ؛ فقال له
[١] عليّان وماني : مجنونان ، من عقلائهم ، ترجم لهما ابن حبيب النيسابوري في كتابه «عقلاء المجانين» وممّا رواه عن عليّان : أنّ القاضي حفص بن غياث مرّ في طاق السرّاجين ، فإذا عليّان جالس ، فلمّا جازه سمعه يقول : «من أراد سرور الدنيا وحزن الآخرة فليتمنّ ما هذا فيه» قال القاضي : فو الله لقد تمنّيت لو كنت متّ قبل أن ألي القضاء ، وله أخبار لطيفة. أما مان ـ كذا في عقلاء المجانين ـ فله شعر جميل منه هذان البيتان :
فتنفّست ثمّ قلت لطيفي
ويك! لو زرت طيفها إلماما
حيّها بالسلام سرّا وإلّا
منعوها لشقوتي أن تناما
زادهما على قول أبي العتاهية المشهور :
حجبوها عن الرياح لأنّي
قلت يا ريح بلّغيها السلاما
(انظر : عقلاء المجانين : ٨١ ، ١٢٠).
[٢] العمراني : هو أبو فارس الفقيه قاضي مراكش في دولة يعقوب بن عبد الحّق المريني ، ذكره ابن أبي زرع في : الذخيرة السنية ٨٦. وفي القرطاس ٢٨٩ ، ٣٧٥ ، والإعلام للمراكشي : ٨ / ٤٠٣.
[٣] مراكش : مدينة عظيمة بالمغرب شمال أغمات وعلى اثني عشر ميلا منها. كانت مركزا للدولة أيام الموحّدين بالمغرب. أوّل من اختطّها يوسف بن تاشفين من الملثمين في حدود ٤٧٠ ه انظر الروض المعطار : ٥٤٠.
[٤] في بقية النسخ : نفض ، والنفّط : سائل أسود مخضّر زيتي القوام يستنبط من بعض أجواف الأرض. قابل للاشتعال.