ثمّ وصلنا إلى مدينة باجة [١] ، وهي مدينة جرّعها الدّهر أجاجه [٢] ؛ قد هتكتها الأيدي العادية ؛ وفتكت فيها الخطوب المتمادية ، حتّى صارت وهي حاضرة بادية ؛ فخشوعها لائح وضراعتها بادية ؛ وقد حدّثت بها أنّ أهلها لا يفارقون السّور خوفا من العربان ، وأنّهم يستعدّون لدفن الجنائز كما يستعدّ [٣] ليوم الضّراب والطّعان. ولم نقم [٤] بها إلّا ظلّ نهار ، فلم أختبر لذلك حالها حقيقة الاختبار.
[لقاؤه لأبي علي الطّبليّ]
وما رأيت بها من له إلى العلم انتماء ، أو لهمّته نحو المعارف ارتماء [٥] ، سوى الأديب النّحويّ أبي عليّ حسين بن محمّد الطّبلي ؛ بالطّاء والباء السّاكنة بواحدة ؛ وهو رجل له مقول منقاد ، وذهن مشتعل وقّاد ، حسن الخلق مقبول الصّورة ، ولكنّ همّته فيما رأيت على علم العربيّة مقصورة ، وقد جمع أكثر مؤلّفاتها ، واحتفل في تحصيل مصنّفاتها ، فاجتمع له من [٦] ذلك ما دلّ على نبله ، وأعانه على تسديد نبله ؛ سألته عن نسبته المتقدّمة فقال لي : هو لقب جرى علينا قديما واشتهرنا به. وقد قرأت عليه بعض كتاب «المقرّب» [٧] في
[١] باجة : بلد بإفريقية كثيرة القمح ، بينها وبين تنس يومان. تبعد ٢٥ ميلا عن البحر المتوسط و ٦٥ ميلا عن تونس. انظر وصف إفريقيا : ٢ / ٦٦.