تقتضي عدم جواز الرجوع الى البراءة إلّا بعد الفحص و اليأس، هكذا تقتضي عدم جواز الاستناد الى قاعدة التخيير، و لا إلى قاعدة الطهارة في الشبهات الحكميّة، و لا الى الاستصحاب فيها إلّا بعد الفحص، ضرورة أنّ مفادها أنّ الأحكام الواقعية يجب تعلّمها و الفحص عنها، و أنّه يقال للعبد: هلّا تعلّمت حتّى تعمل؟ فكما لا يجوز له الاستناد في نفي التكليف الى حديث الرفع، بل يقال له: هلّا تعلّمت؟
كذلك الاستناد الى سائر الاصول الجارية في الشبهات الحكمية المقتضية لعدم الاعتناء بالحكم الواقعي، و هو واضح.
[عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعيّة]
تتمّة:
إنّ الأدلّة الموجبة للفحص إنّما تقتضيه في الشبهات الحكميّة، و أمّا الشبهة الموضوعيّة فجريان البراءة العقليّة فيها من دون الفحص عن الواقع و إن لم يكن واضحا إلّا أنّه لا ينبغي الريب في عموم أدلّة الاصول و شمولها للشبهات الموضوعيّة قبل الفحص أيضا، و يؤيّد هذا العموم قرائن خاصّة موجودة في بعض الأخبار المتضمّنة لهذه الاصول.
ففي خبر عبد اللّه بن سليمان قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن الجبنّ، فقال لي:
لقد سألتني عن طعام يعجبني، ثمّ أعطى الغلام درهما فقال: يا غلام، ابتع لنا جبنّا ثمّ دعا بالغداء فتغدّينا معه، فأتى بالجبن فأكل و أكلنا، فلمّا فرغنا من الغداء قلت:
ما تقول في الجبنّ؟ قال: أو لم ترني آكله؟ قلت: بلى، و لكنّي احبّ أن أسمعه منك، فقال: سأخبرك عن الجبنّ و غيره، كلّ ما كان فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه [1].
فإنّ جوابه (عليه السّلام) العمليّ عن السؤال بإعطاء الغلام درهما يبتاع به جبنّا و أكله ممّا ابتاعه يدلّ دلالة واضحة على جواز ابتياعه من أيّ أحد كان و محكوميّته
[1] الوسائل: ج 16 الباب 61 من الأطعمة المباحة، الحديث 1.