ولم يزل الأمر في شدّة ، والرّعية في رداءة وردّة ، والسّور يخرق بكل هدّة [١] ، وبلاء الضرب يبلى منه كل جدّة ، حتى قنط الرّاجي ، وكان باليأس من النجاة التناجي ، وحذر الهول وهال المحذور ، واتسعت النّقوب وضاقت [٢] الصّدور ، وتجلد المسلمون للخطب ، / ٣٨ / وأخذوا من جهتهم في النقب ، فخبطوا في ظلمة الأرض خبط عشواء [٣] ، وصادفوا مغارات الرّوم فشنّوا فيها الغارة الشّعواء ، وقتلوا عدّة من رجالهم ، وصدّوهم عن مجالهم.
وقعدوا هنالك مقاعد للسّمع [٤] ، وحكموا في جناية النباش بعقوبة القطع ، ورتبوا رجالا على كل فوهة ، وأقاموا هنالك في أهبة غير ذات أبّهة ، ولو أنّهم متّعوا بالقوت لمنعوا ، ولو حفظوا لما ضيعوا ، وما زالوا هناك في ضيق من العيش والقرار ، وعضاض [٥] مع ضباع ذلك الوجار [٦] ، حتى غلبهم
[٣] تضمين لقول الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى في معلّقته الشهيرة :
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطئ يعمّر فيهرم
الزيات أحمد حسن ، تاريخ الأدب العربي ، ص ٦٤.
[٤] إشارة إلى قوله تعالى : (" وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً"). سورة الجن ، الآية ٩.
[٥] عضاض ، بالكسر : يقال فلان عضاض عيش أي صبور على الشدة. واشتد عضاض القوم أي اشتد عيشهم. الفيروز آبادي ، القاموس المحيط ، ص ٥٨٢.
[٦] الوجار : والجمع أوجرة ووجر ، وهو جحر الضبع والأسد والذئب والثعلب ونحو ذلك ، وهناك من يقصره على الضباع فقط. جاء في حديث الإمام علي كرم الله وجهه : وانجحر انجحار الضبة في جحرها والضبع في وجارها. لسان العرب ، ج ٥ ، ص ٢٨٠.