أطنب ابن اليسع في الثناء عليه ، وذكر أنه ولي قضاء قرطبة في مدة على ابن يوسف بن تاشفين قال : وقد كنت أسمع بمن وهب الآلاف وألزم ماله الإتلاف ، فيداخلني ما يداخل المخبر من تصديق وتكذيب وتبعيد وتقريب ، حتى باشرته ينفق في كل يوم على أكثر من ثلاثمائة بيت يعيل ديارهم ويقيل عثارهم ، وكان يحرث له في ضياعه الموروثة بثمانمائة زوج في كل عام ، فلم يبق عند نفسه منها إلا ما يأكل.
من الجذوة : أصله من البربر من مصمودة ، تولى بني ليث ، فنسب إليهم ، رحل إلى المشرق فسمع مالك بن أنس وسفيان بن عيينة واللّيث بن سعد وعبد الرحمن بن القاسم وعبد الله بن وهب. وتفقّه بالمدنيّين والمصريين من أكابر أصحاب مالك ، بعد انتفاعه بمالك وملازمته له ، وكان مالك يسميه عاقل الأندلس. وكان سبب ذلك فيما روي : أنه كان في مجلس مالك مع جماعة من أصحابه ، فقال قائل : قد خطر الفيل فخرجوا ، ولم يخرج ، فقال له مالك : ما لك لم تخرج لتنظر الفيل وهو لا يكون في بلادكم فقال له : لم أرحل لأنظر الفيل وإنما رحلت لأشاهدك ، وأتعلّم من علمك وهديك ، فأعجبه ذلك منه وسمّاه : عاقل الأندلس.
وإليه انتهت الرياسة في الفقه بالأندلس وبه انتشر مذهب مالك هنالك وتفقّه به جماعة لا يحصون. وكان مع إمامته ودينه مكينا عند أمراء الأندلس معظّما ، وعفيفا من الولايات منزّها ، جلّت درجته عن القضاء ، فكان أعلى قدرا من القضاء عند ولاة الأمر هنالك ، لزهده في القضاء وامتناعه منه ؛ سمعت الفقيه الحافظ أبا محمد علي بن أحمد [٣] يقول : مذهبان انتشرا في بدء
[١] ترجمته في الصلة (ص ٥٢٨) وبغية الملتمس (ص ٥١) توفي سنة ٥٣٦ ه.
[٢] ترجمته في نفح الطيب (ج ٢ / ص ٢٢٩) وتاريخ علماء الأندلس (ص ٥١٠) ووفيات الأعيان (ج ٦ / ص ١٤٣) والجذوة (ص ٣٥٩).
[٣] هو علي بن أحمد بن سعيد أبو محمد الظاهري توفي سنة ٤٥٦ ه ، كشف الظنون (ج ٥ / ص ٦٩٠ ـ ٦٩١).