حتى إذا بلغ إلى أقصى غاياته و منتهى
نهاياته رجع عند البلى و الفساد إلى ما تكوّن منه. بيان ذلك أن النبات يمتص بعروقه
لطائف الأركان، و يصير ورقا و حبّا و ثمارا يتناولها الحيوان ليتغذى، ثم يستحيل في
أبدان بعضها لحما و دما، و بعضها يخرج ثفلا و سمادا، و يردّ إلى أصول النبات
ليتغذى منه و يصير حبّا و ثمارا ثانيا، و يتناوله الحيوان. فإذا تأمل هذا من حاله
وجد كأنه دولاب دائر.
و أما أجسام الحيوان فإنها كلها تعود إلى التراب و تبلى و تصير
ترابا، و يكون منها نبات، و من النبات حيوان، كما بيّن قبل. فإذا تأمل ذلك وجد
أيضا كأنه دولاب يدور.
و أما أحوال البشر إذا اعتبرت فكلها دائرة كالدولاب، و ذلك أن
الإنسان يبدو كونه من النّطفة، ثم ينشأ و ينمو و يتم و يبلغ إلى أن تتولد منه
النّطفة، فيشتهي العود إلى حيث خرج لقضاء شهوته و نتاج مثله. و كذلك بدأ كونه ناقص
القوة ضعيف البنية، ثم يرتقي و يتزايد إلى أن يبلغ إلى الأشدّ، ثم يبتدئ في
الانحطاط و النقص إلى أن يردّ إلى أرذل العمر كما كان بديّا كما ذكر تعالى فقال:
«لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة
علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا
آخر فتبارك اللّه أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون» و كما قال سبحانه:
«خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلّقة و غير مخلّقة لنبين لكم
و نقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم و منكم من
يتوفى و منكم من يردّ إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا» و قال: «و اللّه
أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا».