الجنان و في عالم الأفلاك من الرّوح و
الريحان، و قلة رغبتهم فيها لقلة تصديقهم بما خبّرت به الأنبياء، صلوات اللّه
عليهم، و ما أشارت إليه الفلاسفة الحكماء بما يقصر الوصف عنه من لطيف المعاني و
دقائق الأسرار، فانصرفت همم نفوسهم كلها إلى أمر هذا الجسد المستحيل، و جعلوا
سعيهم كله لصلاح معيشة الدنيا من جمع الأموال و المآكل و المشارب و الملابس و
المراكب و المناكح، فصيّروا نفوسهم عبيدا لأجسادهم، و أجسادهم مالكة لنفوسهم، و
سلّطوا الناسوت على اللاهوت، و الظلمة على النور، و الشياطين على الملائكة، و صاروا
من حزب إبليس و أعداء الرّحمن.
فهل لك أيها الأخ أن تنظر لنفسك و تسعى في صلاحها، و تطلب نجاتها و
تفك أسرها و تخلصها من الغرق في الهيولى و أسر الطبيعة و ظلمة الأجساد، و تخفّف
عنها أوزارها، و هي الأسباب المانعة لها من الترقي إلى السماء و الدخول في زمرة الملائكة،
و السّيحان في فسحة عالم الأفلاك الروحانية، و الارتفاع في درجات الجنان، و التنفس
من ذلك الرّوح و الريحان المذكور في القرآن، بأن ترغب في صحبة أصدقاء لك نصحاء، و
إخوان لك فضلاء، وادّين لك كرماء، حريصين على طلب خلاصك و نجاتك مع أنفسهم، قد
خلعوا أنفسهم من طاعة أبناء الدنيا، و جعلوا كدّهم طلب نعيم الدار الأخرى، بأن
تسلك مسلكهم و مقصدهم، و تتخلص بسيرك معهم، و تتخلّق بأخلاقهم، بأن تسمع أقاويلهم
و تعرف اعتقادهم، و تنظر في علومهم و تفهم أسرارهم، و ما يخبرونك به من العلوم
النفسية و المعارف الزكيّة الحقيقيّة، و المعقولات الروحانيّة، و المحسوسات
النفسانية؟
إذا دخلت مدينتنا الروحانيّة، و سرت بسيرتنا الملكية، و عملت بسنّتنا
الزكيّة، و تفقهت في شريعتنا العقلية لتنظر إلى الملإ الأعلى، و تعيش عيش السعداء
فرحان مسرورا، ملتذّا مخلّدا أبدا بنفسك الباقية الشريفة، النيّرة الخفيّة،
الشفّافة، لا بجثتك الدنيّة، المظلمة الثقيلة، المتغيرة المستحيلة،