فصل في كيفية وصول الآلام إلى النفوس
الشريرة بعد مفارقة أجسادها و كيف تكون من جنود إبليس و حزب الشياطين
فنقول: اعلم أن الإنسان العاقل، إذا سمع أوامر الناموس و نواهيه و
وعيده و زواجره، ثم لم يأتمر بحدوده و لم ينقد لأحكامه؛ أو سمع العلوم الحكمية،
فلم يقم بواجبها، ثم أهمل أمر نفسه و أعرض عن النظر في مصالحها بعد مفارقتها
الجسد، بل جعل أكثر عنايته في إصلاح شأن هذا الجسد و اهتمامه في تربيته، و اشتغل
الليل و النهار بما يصلح الجسد من المأكولات و المشروبات و اللّبس و المركب و
المسكن و جمع المال و الأثاث و زينة الدنيا، و استغرق في الشهوات الجسمانية، و غاص
في اللذات الجرمانية، لا يفكر في غيرها و لا يهمه سواها، و تمنى الخلود في الدنيا،
مع أنه يتيقن بأنه لا يترك هاهنا، و أفنى عمره كله ساهيا و لاهيا إلى الممات؛ ثم
جاءته سكرة الموت بالحق التي هي مفارقة النفس الجسد على كره منها و إجبار منها، و
تلك شربة لا بدّ من شربها لكل من دخل في عالم الأجساد و الأجسام الطبيعية
الهيولانية، و بقيت عند ذلك نفسه بلا جسد و قد سلبت آلات الحواسّ التي كانت تنال
بها اللذات الجسمانية و قد اعتادتها بطول الدّربة فيها، فانطبع في همّتها النزول
إليها، و لا وصول لها إلّا بهذا الجسد و أعضائه، و قد منعت ذلك لكون مثلها عند ذلك
كمثل من سلّت عيناه، و صمّت أذناه، و شلّت يداه، و قطعت رجلاه، و خرس لسانه، و شدّ
منخراه، و عمي قلبه، و فارقته أحبابه، و جفاه أصدقاؤه، و تركه إخوانه، و هجره
جيرانه، و ظفر به أعداؤه، و شمت به حسّاده، و ما بقي معه إلّا الروح في الجسد
معذّبا، فلا هو حيّ يلذّ بالعيش، و لا ميت يستريح من العذاب كما قال تعالى: