هذه الدار من السياسات من إصلاح أمر المعاش
على الطريقة الوسطى، و تمهيد أمر المعاد على سنن الهدى و تهذيب النفس بالأخلاق
الجميلة و الآراء الصحيحة و الأعمال الصالحة، كلّ ذلك بتوسط هذا الجسد المؤلف من
الدم و اللحم.
ثم إن فارقته على بصيرة منها و من أمرها، و قد عرفت جوهرها، و تصوّرت
ذاتها، و تبيّنت أمر عالمها و مبدئها و معادها، كارهة للكون مع الجسد، بقيت عند
ذلك مفارقة للهيولى، و استقلّت بذاتها، و استغنت بجوهرها عن التعلق بالأجسام، فعند
ذلك ترتقي إلى الملإ الأعلى، و تدخل في زمرة الملائكة، و تشاهد تلك الأمور
الروحانية، و تعاين تلك الصور النورانية التي لا تدركها بالحواس الخمس، و لا تتصور
في الأوهام البشرية، كما ذكر هذا في الرموزات النبوية أن في الجنة ما لا عين رأت و
لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر من النعيم و اللذة و السرور و الفرح و الرّوح و
الرّيحان، كما قال اللّه تعالى: «فِيها ما تَشْتَهِيهِ
الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ» و قال: «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ
لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ».
فأما إذا لم تستتمّ خلقة الجنين في الرّحم، و لا استكملت هناك صورته،
أو عرض له عارض من النفس و الاعوجاج في عضو من الأعضاء، فإنه لا ينتفع بالحياة في
هذه الدار على التمام، و لا يكمل له نعيمها كالعميان و الحرس و الطّرشان و الزّمنى
و المفاليج و أشباههم، فهكذا تكون حال النفوس الجزئية عند مفارقة الأجساد البشرية.
و ذلك أن الجزئية إذا لم تستتمّ بالعلوم و المعارف، فإنها ما دامت
مرتبطة بالأجساد البشرية متهيئا لها إدراك المحسوسات، فلا تستكمل صورها بمعرفة
حقائق الأشياء ما دام لها العقل و التمييز و الرويّة، و لا هي تهذبت بالأخلاق
الجميلة ما دام يمكنها الاجتهاد و العزيمة، و لا هي قوّمت اعوجاجها من الآراء
الفاسدة، و قد أرهقتها أعمالها السيئة و أثقلتها أفعالها القبيحة، فإنها