فنقول: أولا إن الجسم جوهر طويل عريض عميق، إيجاب غير حيّ، و لا
متحرّك و لا حسّاس، سلّم هذا بإجماع من العلماء.
فأما النفس فإنها جوهر ليست بجسم، و هي حية بذاتها، علامة بالقوة،
فعّالة بالطبع. و الدليل على ذلك ما قد بان من تأثيراتها في الأجسام، و ذلك أنها
هي المحرّكة للجسم، المدبّرة المكسبة له الحياة و القدرة، و هي المصوّرة فيه
الأشكال و النقوش، المتحكمة عليه، المتصرّفة بحسب ما يتأتّى في شخص واحد من
الأجسام الكليات و الجزئيات أجمع، و كفى بهذا دليلا على وجود النفس و شرف جوهرها.
و أما الدليل على أن العقل أشرف من جوهر النفس فهو بيّن ظاهر لكل
عاقل. و ذلك أن الإنسان لما كان أفضل من سائر الحيوانات التي تحت فلك القمر، و كان
فضله إنما هو من قبل عقله لا من جهة النفس، لأن سائر الحيوانات لها نفوس أيضا،
فكفى بهذا دليلا على أن العقل أشرف من النفس.
و لما تبيّن أن العقل أشرف الموجودات و أفضلها، بعد الباري تعالى، و
كان العقل هو المقرّ على نفسه و على ما دونه من الموجودات بأن كلها مبدعات محدثات
مكوّنات، و أنه عبد لربه، و أن ربه علّة لها، و هو الذي أبدع الهيولى و اخترعها
بعد أن لم تكن، فوجب الرجوع إلى حكم العقل و قضيته! فإن قال قائل: إن الذين قالوا
بقدم الهيولى و أزليته، فبقضية العقل حكموا، فلم لا يجب النزول على قضيتهم و الرضى
بحكمهم؟ فنقول: إن عقل الإنسان نوعان غريزي و مكتسب، فأما الغريزي فيحصل للإنسان
بعد تأمّله للمحسوسات، و أما الغرض المكتسب فكل من كان أكثر تأمّلا للمحسوسات و
أصفى نفسا كان أعقل. و بهذا العقل يعلم أن العالم مصنوع