فنقول: إن اللّه لما خلق الإنسان الذي هو آدم أبو البشر، 7، و فضّله على كثير من خلق قبله تفضيلا جعل إحدى فضائله كثرة العلوم و غرائب
المعارف، و جعل له إليها عدّة طرقات: فمنها طرق الحواسّ الخمس التي بها يدرك
الأمور الحاضرة في المكان و الزمان، كما بيّنّا في رسالة الحاس و المحسوس. و منها
طريق استماع الأخبار التي ينفرد بها الإنسان دون سائر الحيوانات، يفهم بها الأمور
الغائبة عنه بالزمان و المكان جميعا، كما ذكر اللّه تعالى و منّ به عليه فقال: «خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ.» و منها طريق الكتابة و القراءة يفهم بها الإنسان معاني الكلام و
اللغات و الأقاويل، بالنظر فيهما عمن لم يره من أبناء جنسه مع الزمان، أو من هو
غائب عنه بالمكان، كما قال اللّه و منّ به على الإنسان، فقال لنبيه محمد، عليه
الصلاة و السلام:
«اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ.» و بهذه الفضيلة شارك
الإنسان الملائكة الكرام، كما قال اللّه تعالى:
«وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ».
و اعلم أن فهم القراءة و الكتابة و معرفتها متأخّرة عن فهم الكلام و
الأقاويل، كما أن فهم الكلام و الأقاويل و معرفتها إنما هي متأخرة عن فهم
المحسوسات، كما هو بيّن ظاهر لا يخفى على العقلاء، و ذلك أن الطفل إذا خرج من
الرّحم فإنه في الوقت و الساعة تدرك حواسّه محسوساتها، فيحس بالقوّة اللامسة
الخشونة و اللين، و بالقوّة الباصرة النور و الضياء، و بالقوة الذائقة طعم اللبن،
و بالقوّة الشامّة الروائح، و بالقوّة السامعة الأصوات، و لكنه لا يعلم معاني
الكلام و الأصوات إلا بعد حين. فأول شيء يحس باللمس،