فأمّا الإلهيون فيرون خلاف ذلك، و قد ذكرنا أقاويلهم في خلال رسائلنا
الإحدى و الخمسين، و ذكرنا البراهين عليها في الرسالة الجامعة.
فهذا الذي ذكرنا في هذا الباب هو أحد أسباب اختلاف الناس في معارفهم
و معلوماتهم المؤدّية بهم إلى اختلاف الآراء و المذاهب.
و أما السبب الثاني الذي هو من جهة دقّة المعاني و لطافتها و جلائها
و ظهورها فهو مثل التفاوت الذي بين الأمور الجسمانية الظاهرة المدركة بالحواسّ، و
بين الأمور الروحانية الخفيّة عن إدراك الحواس التي لا تعلم إلّا بدلائل العقول و
نتائج البراهين، كما تقدم ذكرها. و هذا الباب هو أكثر أسباب اختلاف العلماء في
آرائهم و مذاهبهم.
و أما الوجه الثالث من الأسباب المؤدّية للناس إلى اختلافهم في
معلوماتهم فهو استعمالهم القياسات المختلفة، و طرقات استدلالاتهم المتفاوتة، و هذا
الباب هو أكثرها تفرّعا و تشعّبا، و هو اكتساب منهم، و عليه يجازون من الذّم و
المدح و الثواب و العقاب. و أما الوجهان الأولان فليس باختيار منهم، و لا اكتساب
لهم فيه.
فصل في بيان كمية القوى العلّامة
و إذ قد تبين مما ذكرنا أسباب اختلاف الناس في مدركاتهم من الأمور
المختلفة فيها، من كم وجه يكون، و كان أحد الوجوه تفاوت القوى الدرّاكة العلّامة
التي هي أربعة أنواع: الحساسة و المتخيلة و المفكّرة و الحافظة، و قد تقدم شرح
تفاوتها في الجودة و الرداءة قبل هذا، فنريد أن نذكر في هذا الفصل الأسباب المعينة
لها على إدراكها مدركاتها، و المعوّقة لها عن ذلك. و نبدأ أولا بذكر القوى
الحساسة، ثم نذكر القوى المتخيلة، ثم