ثم اعلم أن النفوس التامة الكاملة، إذا فارقت الأجساد تكون مشغولة
بتأييد النفوس الناقصة المجسّدة، لكيما تتمّ هذه، و تكمل تلك، و تتخلّص هذه من حال
النقص، و تبلغ تلك إلى حال الكمال، و ترتقي هذه المؤيّدة أيضا إلى حالة هي أكمل و
أشرف و أعلى «وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى». و
المثال في ذلك الأب الشفيق، و الأستاذ الرفيق في تعليمهما التلامذة و الأولاد، و
إخراجهما إياهم من ظلمات الجهالات إلى فسحة العلوم و روح المعارف، ليتمّم التلامذة
و الأولاد، و يكمل الآباء و الأستاذون بإخراج ما في قوّة نفوسهم من العلوم و
المعارف و الصنائع و الحكم إلى الفعل و الظهور، اقتداء بالله تعالى، و تشبّها به
في حكمته، إذ هو العلّة و السبب و المبدأ في إخراج الموجودات من القوّة إلى الفعل
و الظهور. و كل نفس هي أكثر علوما و أحكم صنائع و أجود عملا فهي أقرب تشبّها بربها
و أشدّ تشبّها. و هذه هي مرتبة الملائكة الذين لا يعصون اللّه ما أمرهم، و يفعلون
ما يؤمرون «يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ». و لهذا المعنى قالت الحكماء: الحكمة هي التشبّه بالله بحسب طاقة
البشر. معناه أن تكون علومه حقيقة، و صناعته محكمة، و أعماله صالحة، و أخلاقه
جميلة، و آراؤه صحيحة، و معاملته نظيفة، و فيضه على غيره متّصلا، و اللّه سبحانه و
تعالى كذلك.
ثم اعلم أنه قد اختلف الحكماء في ماهيّة الإنسان، و ما حقيقة معناه،
اختلافا كثيرا، و البحث في ذلك القيل و القال، و لكن يجمعها كلّها ثلاث مقالات: و
ذلك أن منهم من قال: إن الإنسان هو هذه الجملة المرئيّة المبنيّة بنية مخصوصة من
اللحم و الدم و العظم، و ما شاكل ذلك، لا شيء آخر سواها. و منهم من قال: إن
الإنسان هو هذه الجملة المجموعة من جسد جسماني، و من روح نفساني، أي روحانيّ،
مقترني المجموعة. و منهم من