الطّوال التي لا نهاية لها. و الباري تعالى
متقدّم الوجود على الكل، كتقدم الواحد على جميع العدد.
ثم اعلم أنه قد أتى على النفس دهر طويل قبل تعلّقها بالجسم ذي
الأبعاد، و كانت هي في عالمها الروحاني و محلّها النّوراني و دارها الحيوانية
مقبلة على علّتها العقل الفعّال تقبل منه الفيض و الفضائل و الخيرات، و كانت
منعّمة متلذذة، مستريحة، مسرورة فرحانة. فلما امتلأت من تلك الفضائل و الخيرات،
أخذها شبه المخاض، فأقبلت تطلب ما تفيض عليه تلك الخيرات و الفضائل. و كان الجسم
فارغا قبل ذلك من الأشكال و الصّور و النقوش، فأقبلت النفس على الهيولى تميّز
الكثيف من اللطيف، و تفيض عليه تلك الفضائل و الخيرات. فلما رأى الباري تعالى ذلك
منها مكّنها من الجسم، و هيّأ لها، فخلق من ذلك الجسم عالم الأفلاك و أطباق
السماوات من لدن فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، و ركّب الأفلاك بعضها في جوف
بعض، و ركّز الكواكب مراكزها، و رتّب الأركان مراتبها على أحسن النّظام و الترتيب
بما هي عليه الآن، لكيما تتمكن النفس من إدارتها و تسيير كواكبها، و يسهل عليها
إظهار أفعالها و فضائلها و الخيرات التي قبلتها من العقل الفعال.
فهذا الذي كان سبب كون العالم، أعني عالم الأجسام، بعد أن لم يكن. و
من يرد أن يتصوّر كيفية تمخّض الهيولى، و تميّز أجزاء الجسم اللطيف منها من
الكثيف، و قبولها الأشكال الكريّة الفلكية الشفّافة، و كيف تركّب بعضها في جوف بعض
في مراتبها و دورانها، و كيف استدارت أجرام الكواكب النيّرة، و ركّزت مراكزها في
أفلاكها في مسيراتها، و كيف تمخضت أجزاء الأركان الأربعة بعضها مع بعض، و تميّز
بعضها من بعض، و ترتبت على ما هي عليه الآن كلّها من هيولى واحدة من حيث الجسميّة،
مع اختلاف صورها و فنون أشكالها، فليعتبر تركيب جسده