الملائكة، و تشتاق إلى الترقّي إلى ملكوت
السماء، و السيحان في سعة فضاء الأفلاك، و لكن لا يمكن إلا بعد فراق الجسد، على
شرائط محدودة، كما ذكرنا في رسالة البعث و القيامة.
و اعلم أن نفوس الحكماء تجتهد في أفعالها، و معارفها، و أخلاقها، في
التشبّه بالنفس الكلية الفلكية، و تتمنى اللّحوق بها. و النفس الكلية أيضا كذلك،
فإنها تتشبه بالباري في إدارتها الأفلاك، و تحريكها الكواكب، و تكوينها الكائنات،
كلّ ذلك طاعة لباريها، و تعبّدا له، و اشتياقا إليه.
و من أجل هذا قالت الحكماء: إن اللّه هو المعشوق الأول، و الفلك إنما
يدور شوقا إليه، و محبة للبقاء و الدوام المديد على أتم الحالات، و أكمل الغايات،
و أفضل النهايات.
ثم اعلم أن الباعث للنفس الكلية، على إدارة الفلك، و تسيير الكواكب،
هو الاشتياق منها إلى إظهار تلك المحاسن و الفضائل و الملاذّ و السرور التي في
عالم الأرواح التي تقصر ألسن الوصف عنها إلّا مختصرا كما قال تعالى: «فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ».
ثم اعلم أن تلك المحاسن و الفضائل و الخيرات كلّها إنما هي من فيض
اللّه، و إشراق نوره على العقل الكلّيّ، و من العقل الكلّي على النفس الكليّة، و
من النفس الكليّة على الهيولى. و هي الصورة التي تري الأنفس الجزئية في عالم
الأجسام، على ظواهر الأشخاص و الأجرام التي من محيط الفلك إلى منتهى مركز الأرض.
ثم اعلم أن مثل سريان تلك الأنوار و المحاسن، من أولها إلى آخرها،
كمثل سريان النور و الضياء الذي في ليلة البدر منبعثا من جرم جوهر القمر على
الهواء؛ و الذي على جرم القمر من الشّمس؛ و الذي على جرم الشمس و الكواكب جميعا،
من إشراق النفس الكلّية؛ و الذي على النفس الكليّة من العقل الكلّي؛ و الذي على
العقل الكلّي من فيض الباري و إشراقه، كما قال