و مثل أولئك الأخوة العقلاء الذين سئلوا فأجابوا بشرح طويل، فأوقعوا
الخلف بين الأخوة، كمثل الفلاسفة في أجوبتهم عن كيفية حدوث العالم و الهيولى و
الصورة و العنصر و الطبيعة و ما شاكلها من الألفاظ الغريبة المعاني البعيدة
التصور. و مثل أولئك الأخوة القضاة و العدول في أجوبتهم، كمثل الأنبياء، :، و خلفائهم. و مثل ذلك الأب الشفوق الرحيم هو الباري تعالى باعث الأنبياء،
:، ليكونوا قضاة بين خلقه في ما يختلفون فيه من هذه المسائل و يجيبوهم
بحسب ما يليق بعقولهم و مبلغ فهمهم.
فصل
ثم اعلم أنّا قد أخبرنا عن علة حدوث العالم، و بيّنّا كيفية صنعته و
ماهيّة هيولاه و صورته في المبادي العقلية مثل ما ذكر القدماء الفضلاء الموحّدون
منهم القائلون بحدوث العالم. و لكن يحتاج الناظر فيها و السائل عن هذه المسائل أن
تكون له نفس زكية، و فهم دقيق، و قوّة رويّة، و جودة تصوّر روحانية كي يفهمها. فمن
لم يفهم ما وصفنا، فينبغي له أن يقنع بما قالت الفلاسفة إن العالم معلول و علته
الباري. و ربما قالت الأنبياء بأجمعها، :، إن العالم بأسره مخلوق و إن
اللّه، عزّ و جلّ، هو خالقه و مبدعه و مخترعه.
فإن لم يعقل ما قالت الفلاسفة و ما أخبرت عنه الأنبياء، :، و لم يثق بقولهم، و لم تسكن نفسه إلى حكمهم، و لم يطمئن إلى قولهم، و يتكل
على ما تخيّله القوّة الوهميّة، فلا ينبغي له أيضا أن يثق بحكمها، و لا أن يسكن إلى
تخيّلها، لأنه تخيّل ما له حقيقة، و ما لا حقيقة له فلا يوثق به و لا يحكم بصحته،
كما لا يوثق و لا يحكم بصحة القوّة الباصرة، إذا أرتك لون شيء من الطعام بأن تحكم
على حقيقته إلّا بعد أن تستعين بالقوّة الشامّة. فإن عرفت حقيقته، و إلّا استعنت
بالقوّة الذائقة.