الموجودات لما كان بعضها عللا و بعضها
معلولات، و منها أوائل و منها ثوان، جعلت في جبلة المعلولات نزوعا نحو علّاتها، و
اشتياقا إليها، و جعلت أيضا في جبلة علّاتها رأفة و رحمة و تحنّنا على معلولاتها،
كما يوجد ذلك في الآباء و الأمّهات على الأولاد، و من الكبار على الصغار، و
الأقوياء على الضعفاء، لشدة حاجة الضعفاء إلى معاونة الأقوياء، و الصغار إلى
الكبار، كما أجاب رئيس قريش و حكيمها لما سأله كسرى: أيّ أولادك أحبّ إليك؟ فقال:
صغيرهم حتى يكبر، و عليهم حتى يبرأ، و غائبهم حتى يرجع.
فصل
ثم اعلم أن الأطفال و الصبيان، إذا استغنوا عن تربية الآباء و
الأمّهات، فهم بعد محتاجون إلى تعليم الأستاذين لهم العلوم و الصنائع ليبلغوا بهم
إلى التمام و الكمال، فمن أجل هذا يوجد في الرجال البالغين رغبة في الصبيان و محبة
للغلمان، ليكون ذلك داعيا لهم إلى تأديبهم و تهذيبهم، و تكميلهم، للبلوغ إلى
الغايات المقصودة بهم، و هذا موجود في جبلة أكثر الأمم التي لها شغف في تعلّم
العلم، و الصنائع، و الأدب، و الرياضات، مثل أهل فارس، و أهل العراق، و أهل الشام،
و الروم و غيرها من الأمم. و أما الأمم التي لا تتعاطى العلوم و الصنائع و الأدب،
مثل الأكراد و الأعراب و الزّنج و الترك، فإنه قلّ ما يوجد فيهم، و لا في طباعهم
الرّغبة في نكاح الغلمان و عشق المردان.
و أما محبة النساء للرجال و عشقها فإن ذلك في طباع أكثر الحيوانات
التي لها سفاد. و إنما جعلت تلك في طبائعها لكيما يدعوها إلى الاجتماع و السّفاد،
ليكون منها النّتاج. و الغرض منها بقاء النسل، و حفظ الصورة في الهيولى