فإذا أردت يا أخي أن تبلغ إلى أفضل
المطلوبات و أشرف الغايات التي هي الأمور العقلية، فاجتهد في معرفة الأمور
المحسوسة، فإنك بذلك تنال الأمور العقلية. و قد بيّنّا في رسائلنا الطبيعية طرفا
من ذلك. ثم اعلم أن معرفة الأمور الجسمانية المحسوسة هي فقر النفس و شدّة الحاجة،
و معرفة الأمور المعقولة الروحانيّة هي غناها و نعيمها، و ذلك أن النفس في معرفة
الأمور الجسمانية محتاجة إلى الجسد و حواسّها و آلاتها لتدرك بتوسّطها الأمور
الجسمانية. و أما إدراكها الأمور الروحانية فيكفيها ذاتها و جوهرها بعد ما تأخذها
من الحواس بتوسّط الجسد. و إذا حصل لها ذلك فقد استغنت عن الجسد و عن التعليم
بالجسم بعد ذلك.
فاجتهد يا أخي في طلب الغنى الأبدي بتوسّط هذا الهيكل و آلاته، ما
دام يمكنك ذلك قبل فناء العمر و تصرّم المدّة، و فساد الهيكل و بطلان وجوده.
و احذر كلّ الحذر أن تبقى نفسك فقيرة محتاجة إلى هيكل ليتمّ به ما
فاته من الكمال، فتكون ممن يقول: «يا لَيْتَنا نُرَدُّ
فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ.» و
تبقى في البرزخ إلى يوم يبعثون. و من أين لهم أن يشعروا أيّان يبعثون، ما دامت هي
ساهية، لاهية، غافلة، مقبلة على الشهوات الجسمانيّة من اللذّات الجرمانية، و
الزينة الطبيعية، و الغرور بالأماني في هذه الحياة الدنيا المذمومة التي ذمها ربّ
العالمين فقال: «أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ
تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ
أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ» إلى قوله:
«وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» و قال في قصة قارون: «فَخَرَجَ عَلى
قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ، قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ
لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.» ثم حكى قول الرّبّانيّين العلماء العارفين بالأمر الأشرف في المراتب
العالية: «وَيْلَكُمْ، ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ.» يعنون به الدار الآخرة التي «لَهِيَ
الْحَيَوانُ، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.» يعني به عالم الأرواح
الذي كلّه روح و ريحان و تحيّة و رضوان.