و لما ترتبت هذه الأكر بعضها في جوف بعض،
كما أراد باريها، جل ثناؤه، و كما اقتضت حكمته من لطيف نظامها و حسن ترتيبها، و
دارت الأفلاك بأبراجها و كواكبها على الأركان الأربعة، و تعاقب عليها الليل و
النهار و الشتاء و الصيف و الحرّ و البرد، و اختلط بعضها ببعض، فامتزج اللطيف منها
بالكثيف، و الثقيل بالخفيف، و الحارّ بالبارد، و الرطب باليابس، تركبت منها على
طول الزمان أنواع التراكيب التي هي المعادن و النبات و الحيوان. فالمعدن هو كل ما
انعقد في باطن الأرض و قعر البحار و جوف الجبال من البخارات المتحللة و الدخانات
المتصاعدة، و الرطوبات المحتقنة في المغارات و الأهوية. و التّرابية عليها أغلب. و
أما النبات فهو كلّ ما نجم على وجه الأرض من العشب و الكلإ و الحشائش و البقول و
الزروع و الأشجار.
و المائية عليها أغلب. و أما الحيوان فهو كل جسم يتحرّك و يحس و
ينتقل من مكان إلى مكان بجثته. و الهوائية عليه أغلب.
فالمعادن أشرف تركيبا من الأركان، و النبات أشرف تركيبا من المعادن،
و الحيوان أشرف تركيبا من النبات، و الإنسان أشرف تركيبا من جميع الحيوان. و
الناريّة عليه أغلب.
و قد اجتمع في تركيب الإنسان جميع معاني الموجودات من البسائط و
المركّبات التي تقدم ذكرها، لأن الإنسان مركّب من جسد غليظ جسماني، و من نفس بسيطة
روحانية. فمن أجل هذا سمت الحكماء الإنسان عالما صغيرا، و العالم إنسانا كبيرا.
فالإنسان إذا ما هو عرف نفسه بالحقيقة من غرائب تركيب جسده، و لطيف بنية هيكله، و
فنون تصاريف قوى النفس فيه، و إظهار أفعالها به و منه من الصنائع المحكمة و المهن
المتقنة، تهيأ له أن يقيس عليها جميع معاني المحسوسات، و يستدلّ بها على جميع
معاني المعقولات من العالمين جميعا.
فينبغي لنا أيها الأخ، أيدك اللّه و إيانا بروح منه، إذا كنا عازمين
على