الحواس لها، بقيت تلك الرسوم مصوّرة في فكر
النفس؛ فاذا تأملتها النفس و ميزتها بعقلها، فليست تجد شيئا سوى صورة تلك
المحسوسات منتزعة إلى هيولاها، و مصوّرة في جوهر النفس، فيكون جوهر النفس لتلك
الصورة فيها كالهيولى، و تلك الرسوم فيها كالصورة.
و هكذا أيضا حال الصور المعقولة في النفس، فإنها ليست شيئا سوى صور
الأجناس و الأنواع انتزعتها النفس بقوّتها المفكرة، و صوّرتها في ذاتها، و حملتها
كحمل الهواء صور المحسوسات. و ذلك أن الهواء يحمل الأصوات المختلفة، و يؤدّيها إلى
المسامع، و يحمل الروائح و يؤديها إلى المشامّ بهيئتها لا يغير منها شيئا الا أن
يعرض عارض لها، لأن الهواء جسم لطيف روحاني حافظ للصورة.
و هكذا الضياء يحمل الألوان و يؤديها إلى الأبصار بأصباغها، و لا
يخلط بعضها ببعض. لأن جوهر النفس أشدّ روحانية من جوهر الهواء و الضياء جميعا.
ثم اعلم يا أخي أن النفوس الجزئيّة يفضل بعضها على بعض بإحدى هذه
الخصال الأربع: إحداها معارفها التي استفادتها بكونها مع الجسد. و الثانية أخلاقها
التي عددناها. و الثالثة آراؤها التي اعتقدتها. و الرابعة أعمالها التي اكتسبتها.
فإذا كانت النفس كثيرة المعارف في العلوم، و حسنة الأخلاق، صحيحة
الآراء، صالحة الأعمال، صوّرتها هذه الخصال صورة حسنة، صحيحة بهيّة، بهجة روحانية.
فإذا فارقت الجسد، و استقلّت بذاتها، و استغنت بجوهرها عن التعلق بالأجسام، و
انجلت عنها أصداء الطبيعة، أبصرت و رأت عند ذلك ذاتها، و تراءت لها صورتها، فعاينت
جمالها و رونقها، فرأت كلّ ما عملت من خير محضرا، و كلما لاحظت ذاتها ازدادت فرحا
و سرورا و لذّة، و ذلك هو جزاؤها و نعيمها و جنتها، لا نقلة لها أبدا كما قال
تعالى: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُ