و من جهة أخرى أيضا ما كان من الثّقب إلى
موضع النفخ أقرب، كانت نغمته أحدّ، و ما كان أبعد، كان أغلظ. و هكذا تنقسم الأصوات
المتصلة أيضا على هذا المثال غليظة و حادّة، و قد بينّا في رسالة الموسيقى ذلك.
و أما معرفة طبائع الأصوات و ائتلافها و اختلافها بحسب ما نبيّن
هاهنا فنقول: إن الأصوات الحادّة و الغليظة تتضادان، فإذا جمع بينهما على نسبة
تأليفية، ائتلفت و امتزجت و اتحدت و صارت كلاما موزونا و نظما مؤتلفا، فعند ذلك
يستلذه السامع و تسرّ به الأرواح و تأنس به النفوس. و إذا كانت على غير هذه
النسبة، تنافرت و تباينت و لم تأتلف، و لم يستلذها السامع بل ينفر منها و يشمئز. و
الأصوات الغليظة باردة و هي رطبة، و تنقسم قسمين: ضارّة و نافعة. فأما الضارّ فهو
الذي إذا ورد على السامع يعوقه و هي الأصوات الخارجة عن الاعتدال. و قد استعمل
الحكماء اليونانيون آلة لذلك كانوا يستعملونها عند ملاقاة الأعداء و هي صوت بلا
زعيق. و الأصوات المعتدلة المناسبة تعدّل مزاج الأخلاط الحارّة و الكيموسات
اليابسة فهذه تابعة لها.
و الأصوات الغليظة التي يحدث منها فساد المزاج باردة يابسة، لأنه
ربما جاء منها ماء يميت الحيوانات الصغار مثل فراخ الطيور، و الأطفال من الصبيان.
و الأصوات المناسبة باردة رطبة. و الأصوات الحادة حارّة، فما كان
منها على غير النسبة المعتدلة، أفسد المزاج و أحرق الطبيعة، و ما كان منها على
النسبة الفاضلة و الاعتدال، أصلح المزاج و لطّف البرودة. فالقسم الأول حارّ يابس،
و القسم الثاني حارّ ليّن.
و قد اتخذ الحكماء لهذه الأصوات ميزانا يعرفون به طبائعها على النسبة
الفاضلة بحدّ الاعتدال، و هي الآلة التي تسمّى العود، و قد ذكرنا كيفيّة بنيته و
العمل به في رسالة الموسيقى.